كنا صغارا نلهو ونستمتع بأي شيء جديد، أذكر بوضوح الآن أول تعارف لي مع البطيخ، ككرة خضراء مبرقعة، كملابس القوات الخاصة والصاعقة وشوادر التمويه التي يضعها الجيش على سيارات اللاند روفر، قبل أن أتعرف إليه كنبات وطعم، وقشر وبزر.
لقد أقيم معرش كبير في حارتنا، وكان شبيها بخيمة السيرك، وفرشت أرضه بالقش، وسرعان ما حضرت شاحنة كبيرة تحمل عددا هائلا من رؤوس البطيخ، بدأ الشباب ذوو العضلات بتفريغ الشاحنة، من خلال تقاذف تلك الرؤوس بكل مهارة، لتحتضنها الأيادي وتقذفها من جديد إلى شخص يضعها بكل أناة إلى جانب أخواتها البطيخات الأخريات.
كانت الأسر تشتري البطيخ بالجملة وخاصة عندما يتلاقى موسمه الصيفي مع شهر رمضان، كانت رؤوس البطيخ تتزاحم تحت السرير، وكان شراؤه مهارة يدعيها الكل ولا يتقنها أحد إلا بالصدفة، وكان تقشيره فن يدعي الكل أنه أمهر من غيره فيه، وكان يقدم للأمير وللغفير كضيافة لا غبار عليها، وكان سحورا مميزا حين يقدم مع الجبنة البيضاء.

كان البزر الأسود وفيرا في بطيخ تلك الأيام، كان يجمع ويغسل ويجفف ثم يحمص بإضافة الملح وربما الفلفل الأسود. بطيخ اليوم لم يعد مدورا فقط، ولا أخضر مبرقعا فقط، ولم يعد اسمه البطيخ فقط، ولم يعد يذبح ويقطع ويقدم بذات الطريقة، لقد امتلك أسماء وأشكالا وألوانا جديدة، وتنافس المئات في تصوير مهاراتهم بذبحة وتقطيعه ونشر ذلك عبر فيديوهات اليوتيوب، حيث تلاقي متابعة كبيرة.
أول اسم آخر للبطيخ، وأول شكل مغاير لكرة البطيخ، وأول لون جديد للبطيخ وأول طريقة ذبح غير تقليدية للبطيخ تعرفت إليها في بغداد، فهناك اسمه رقّي، وشكله أسطواني متطاول، ولونه فستقي وغير مموه، وأما ذبحه فلا يتم بشقه نصفين طوليا أو عرضيا، وإنما بتحويل الكتلة الأسطوانية إلى دوائر.
الطعم ذاته إن لم يكن أفضل، رغم غرابة الاسم وحداثة الشكل، لكنني لا أستطيع الجزم أنه سيكون ذات الطعم حين يصبح مكعبا، أوعلى شكل قلب حب كما أنتجته اليابان مؤخرا وبيع هناك بأثمان مرتفعة جدا كهدايا قيمة. يبلغ سعر البطيخة اليابانية المكعبة 96 يورو، وأما البطيخة على شكل قلب حب فإنها تباع بـ2600 يورو.
ومؤكد أنه لن يكون ذات الطعم حين يصبح اسمه شمزي كما في الموصل، أو شفتي كما عند الأكراد، أو دلاع كما في الجزائر وليبيا، أو دلاح كما في المغرب، أو جبس كما في حلب، أو جح كما في السعودية وسلطنة عمان، أو يح كما في الإمارات، أو حبحب كما في اليمن، أو قرة كما في الصومال، او دبشي كما في دير الزور. هنا يحتاج القول إننا "أمة عربية واحدة" إلى دفاع مستميت، أفضله المثل الشعبي القائل: "كله عند العرب بطيخ".
الحقيقة أن كل الأسماء بدءاً من بطيخ ومرورا بـ جح ويح وانتهاء بدبشي، لا تعكس من البطيخ لا شكله ولا لونه ولا طعمه ولا أي شيء منه، هناك أشياء واضحة أكثر، اسمها على لونها كالبيضة مثلا، أما هذا الأخضر والأبيض والأحمر والأسود، فلا اسم يحمله بوضوح وشفافية.

درج العراقيون على شراء البطيخ ع السكين، ومن هنا جاء المثل الشعبي الذي يردده غير المهتمين بـالجندرة: "المرة مثل الرقية أنت وحظك ع السكين". ويقابله لدينا: "الزواج مثل البطيخة"، والحقيقة أن البطيخ دخل كثيرا في الأمثال والأقوال المأثورة والشعبية، فإذا أردنا طمأنة شخص قلنا له: "حط في بطنك بطيخة صيفي" وكأن هناك بطيخاً شتوياً مثلا.
وإذا أردنا تحذيره نقول له: "بطيختين بالإيد ما بتنشال" وكأن اليد مثلا يمكنها حمل خروفين أو شمامتين، وإذا ما أردنا إيصاله إلى حافة اليأس من الدراسة مثلا نقول له: "بلا دراسة بلا بطيخ" وإذا ما أردنا حمل أحدهم على نسيان خسارته نقول له: "ياما كسر هالجمل بطيخ"، وإذا ما أردنا التذكير بأصل الشيء قلنا: "ازرع البطيخ بقثاة، كل شيء يرجع لأباه". وفي مصر يقولون لمن يفتعل مشكلة على شيء تافه: "علشان حتة بطيخ عمل مشكلة وصريخ".
وأنا أيضا عملت من الحبة بطيخة وليس مجرد مشكلة أو قبة، وبقي أن أقول أن باعة البطيخ مميزون بأشكالهم وأصواتهم وسلوكهم، فهم عادة سمينون جدا يرتدون دشداشة في وسطها حزام، ومعلق به سكين، وينادون على بضاعتهم بصوت عال جدا، ويتفنون في المناداة عليها، وفي طريقة عرضها.
وأما بائعات البطيخ، فيكفيهن زهواً أن نانسي عجرم هي نقيبتهن أو ملكتهن، ولقد حازت هذا اللقب بجدارة عندما رقصت وغنت بفستانها الأحمر الجميل أغنية "ما تيجي هنا" فيما كانت تبيع البطيخ قبل أن يجري اعتقالها بتهمة تكسير البطيخ في الشارع العام. ذكية جدا هذه النانسي، لقد تمكنت من الإفلات من قبضة العدالة يومها.
الكاتب: عماد الأصفر
المحرر: عبد الرحمن عثمان