بلكي بتجي جلنار
كتب أكثر من أغنية لوديع الصافي وفيروز أشهرها "جلنار"، التي يظنها كثيرون من كلمات الأخوين رحباني، إنه شاعر العامية ميشال طراد، صاحب التأثير القوي على الشعر العامي اللبناني. جلنار هي الحب الأول الشاعر وعنوان أول دواوينه أيضاً.
"الجمعة 6 كانون الثاني 1956 الساعة السادسة مساءً في بيروت، فتح منصور (31 عاما) الباب ورحب بميشال (44 عاما) القادم من زحلة ترحيبا حارا وصادقا. ارتبك الضيف المتواضع وارتفع لديه منسوب الشعور بالغبن التاريخي اللاحق به أبا عن جد، غاص في المقعد الوثير، وشغله دفء المنزل عن إيجاد الكلمات التي يريد قولها للمباركة. دخل عاصي (33 عاما) ومعه زوجته الشابة نهاد (20 عاما) وفي حضنها المولود الجديد، زياد. وضع ميشال كأس النبيذ واقترب من الطفل الذي رفع يده الحريرية إلى خد ميشال، استخرج ميشال أوراقه وقلمه وعدل سطرا أو سطرين وقدم الأوراق لعاصي قائلا: هذه هديتي للمولود الجديد، سأعود الآن لحراسة القلعة.
وبينما كانت السيارة عائدة إلى زحلة انشغل منصور وعاصي بالكلمات الساحرة التي خطها ميشال:
بكوخنا يا ابني بهالكوخ الفقير والتلج ما خلّى ولا عودة حطب
وقفوا ع شباكك يدقّوا العصافير بجوانِحُن يا جوانِحُن المتشرنين
ورفيقك البلبل شو مشتقلك كتير مخبّيلك بعبّو شي ميّة سوسنة
وشو الدني يا ابني وشو طعم الدني ان ما هبّجت وجّي بإيديك الحرير
وعرفا فورا أنها ستكون أغنية خالدة. وأما ميشال، فقد أنفق الوقت في استذكار عذابات طفولته وفقره منذ اختفاء والده في سنة المجاعة، وزاد حزنه وهو ينظر إلى قلعة بعلبك، التي سينفق 35 عاما موظفا صغيرا يعمل في حراسة أعمدتها الرخامية، وسينفق عمره كله وهو حزين لفقدانه جلنار، تلك الصبية التي تكبره بتسع سنوات والتي لم يحب أحدا غيرها طيلة حياته. دخل مسرعا فاستخرج ديوانه الأول جلنار. فكر في تمزيق المقدمة التي كتبها سعيد عقل، لكنه تراجع لعلمه بصداقة الرجل مع الأخوين رحباني وطوى الورقة التي تحمل قصيدة بعنوان جلنار وأرسل الديوان لعاصي ومنصور.
حل ربيع نيسان واكتمل القمر في سماء زحلة وجلس ميشال واضعا مرفقيه على الطاولة، كان يستمع لفيروز تغني:
وقّفت قلبي عالدرب ناطور .. تَ فاق ألف نهار
وِعْيت الشمس وزقزق العصفور .. وما إجت جلنار
وضع رأسه بين كفيه وحدق طويلا في كاس العرق، سالت دموعه في الكأس الحليبي، تنهد وقال إن لم تسمعها جلنار من فيروز فممن ستسمعها إذن؟!
ساد الخنافس بشعورهم ومجونهم في بيروت ولم يدحرهم الا طربوش وصوت نصري شمس الدين وكلمات ميشال طراد التي ظلت وفية للقرية الوادعة والصافية، ثم هبت على المدينة حرب أهلية وتلتها موجة عارمة من أغاني الفيديو، فالتهب دماغ عاصي ورحل عن دنيانا مخلفا أشعارا وموسيقى ومسرحيات لا تموت وعبقرية زياد ومنازعات ميراث قضت على شقيقه منصور وأتلفت دماغ ابنه الذي شكك بأبوة عاصي الصغير ابنه من طليقته دلال كرم. وظل ميشال طراد منتظرا جلنار إلى أن رحل عام 1998.
تدخل فيروز عقدها الثامن متوجة بحب جماهيري لا يدانيه حب على مر العصور، تدخله وقد منحت كل واحد منا ذاكرة طفولته البعيدة وشبابه وحبه ووطنه حتى أضحت هي بذاكرة متقطعة تغيب عنها أحداث ووجوه ولكن ليس من بين من يغيبون عاصي ومنصور وميشال".
الكاتب: عماد الأصفر
المحرر: عبد الرحمن عثمان
2019-10-07 || 21:23