كان والدي رحمه الله واحدا من بين مئات غادروا قراهم في فلسطين منتصف القرن الماضي واتجهوا إلى العمل في الكويت، وسرعان ما صار عددهم مئات الآلاف. كنا ننتظر قدومه في إجازات الصيف بفارغ الصبر، وبقدومه يصير الصيف موسماً للمتعة. كانوا يأتون إلى الأردن برا، إما عن طريق السعودية وإما عن طريق العراق.
القادم عبر العراق سيحمل معه دون أدنى شك، عددا من الصناديق الخشبية البيضاء المغلقة بالمسامير بإتقان وإحكام، في داخل كل صندوق قطع من حلوى بيضاء طرية مغمورة بالدقيق. لم يكن لطعمها شبيه، كانت رغم صلابتها تذوب على لساني وتصبح هشة، سامحة لي باستكشاف ما بداخلها من لوز أو فستق.
يصعب وصف الطعم، غير أن الشعور المصاحب لتذوق تلك الحلوى كان مدهشا، لدرجة أنه يدعوك إلى التمهل، وتركها تذوب في الفم ببطء قبل ابتلاعها. لن تشعر بامتلاء، أو اقتناع، ستطلب المزيد، ففي كل حبة من حبات (منِّ السِما)، تتكرر دهشة التذوق، ومحاولات الوقوف على الطعم الجميل والمحير.
لم تكن حبات (منِّ السِما) قاسية كحبات النوغا السورية البيضاء، ولا مليئة بالسكر كالحلاوة الطحينية، التي تقنعك بل تدفعك لتركها بعد أول ملعقة.
باختصار، لقد كانت شيئا مختلفا وخرافيا، وهو ما ثبت لي لاحقا، عندما عرفت أنها مجرد تحوير ونحت عراقي للمنّ والسلوى، التي وردت في ثلاث آيات في القرآن الكريم وكانت دوما مرتبطة ببعضها ومرتبطة بفعل "أنزلنا عليكم" أي على بني إسرائيل.
العراقيون ماهرون جدا في نحت العبارات، تفعل كل الشعوب ذلك ولكن العراقيين أمهر من كل الشعوب، حدثتكم سابقا عن الضابط البريطاني الذي طلب كوبا من الشاي الشرقي قائلاً: East Tea Can، وكيف نحت العراقيون العبارة لتصبح استكان، ولتصير هوية مميزة للعراق وللعراقيين ولكل كاسة شاي على مر التاريخ. هناك شواهد كثيرة على إبداع العراقيين في نحت الكلمات.

كيف نحت العراقيون المنّ والسلوى لتصير منِّ الِسما، وهل هذه النعمة التي أنزلها الله سبحانه وتعالى على بني إسرائيل في زمن التيه، هي ذاتها التي تصنع في السليمانية وتوضع في علب خشبية، ليشتريها القادمون من الكويت إلى الأردن؟
رأى المفسرون أن المنَّ الذي أنزله سبحانه وتعالى كان سائلا غليظا كالصمغ ينزل على الأشجار كالثلج، ويكون أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، وأما السلوى، فهي وفقا لبعض المفسرين العسل، ووفقا لآخرين هي طائر السُّمان.
وطبعا رأى آخرون أن المنَّ إنما هو كل ما امتنَّ الله به على بني إسرائيل من طعام وشراب، وغير ذلك، مما ليس لهم فيه عمل ولا كد، ورأوا أيضا أن السلوى المقصودة هي السلوان وكل ما يُسلي الإنسان.
وأمام احتشاد وتضارب التفاسير، لا بد من الذهاب إلى طريقة صنع هذه الحلوى وتبين مكوناتها ومن أين تأتي؟ لا اختلاف هنا ولا مجال للتفاسير المتضاربة.
يجمع الفلاحون العراقيون المادة الخام التي تفرزها حشرة المن على جذوع أشجار الجوز والبلوط والمازو في فصل الخريف وتكون صمغية لزجة مائلة للاخضرار ويبيعونها لمعامل الحلويات حيث يتم تذويبها في الماء المغلي، ثم تصفيتها ثم تصنيعها وحشوها بالجوز أو اللوز أو الفستق ثم يتم عجنها بالدقيق قبل أن تعبأ في العلب الخشبية.
وبذلك يكون العراقيون قد جمعوا كل التفاسير: ما هو مادي كالسائل الصمغي الغليظ أو العسل، وما هو لا مادي كالمنّ، بمعنى الفضل والهبة والنعمة التي تتأتي للإنسان من رب السماء دون كد أو جهد أو تعب، وصاغوا منَّ سمائهم، لنحتار في طعمه وفي معناه أهو مادي تجمع مادته اللزجة من الأشجار، أم هبة السماء لأنه لا يزرع ولا يستنبت ولا يحتاج أرضا أو حراثة أو سقاية.
أصحاب منهج الهبة الربانية يسندون رأيهم بحديث نبوي صحيح يقول "الكمأة من المنّ، ......" والكمأة (الفقع لدينا في المشرق، والترفاس هناك في المغرب العربي)، نبات لا ساق ولا أوراق له، وينمو تحت الأرض في الصحراء، ويستخرج منها على أيدي العارفين بالحفر في فصل الربيع وفقط بعد نهاية أيام المطر المصحوب بالرعد والبرق، ولذلك يسمون حبات الكمأة ببنات الرعد.
بنات الرعد هذه مفيدة ولذيذة تشبه البطاطا شكلا وحجما ولكنها رخوة وملساء، اللافت في الموضوع أن لا أحد زرعها أو استنبتها فهي تخرج لوحدها بعد الرعد والبرق وفي الأراضي التي لم تطأها قدم الانسان، إنها هبة الله ومنّة السماء والرعود والبروق.
في السنوات الأخيرة، لم يعد المسافرون يشترون منّ السما من بغداد لنقله إلى الأردن، لقد أصبح يصدر إلى هناك، وربما يصنع هناك أيضا، غير أن المسافرين في الربيع كانوا يتوقفون في منطقة الرمادي لشراء أكياس كبيرة من الكمأة التي نمت في أراضي الأنبار.
أغلب الظن أن شباب الأنبار يضعون الآن أطراف دشاديشهم بين أسنانهم أو يربطونها إلى وسطهم، ويحمل كل منهم فأسا صغيرة بعصا طويلة، يسير كل منهم متتبعا شقوق الأرض التي جفت، وبعين الخبير سيلحظ نتوءا صغيرا، سيحفر على عمق 10 سم لا أكثر، ليجد بنت الرعد هناك في انتظاره، سيجمع منها الكثير، فهذا موسمها.
الكاتب: عماد الأصفر
المحرر: عبد الرحمن عثمان