كيف يساهم صنّاع المحتوى الرقمي في توجيه الرأي العام؟
بينما يلعب صانعو المحتوى دوراً مهماً في نشر المعلومة لامتلاكهم العدد الأكبر من المتابعين، أسبابٌ كثيرة تؤدي إلى تحولهم لمصادر معلومات مضللة، أو خاطئة، أمام مجموعة من التحديات التي تضعهم أمام مسؤوليةٍ كبيرة.
يُعدّ صانعو المحتوى اليوم من بين العناصر الأكثر تأثيرًا في الفضاء العام، بفضل قدرتهم على الوصول إلى جماهير واسعة وبناء علاقات شخصية مع متابعيهم، ويُنظر إلى بعض المؤثرين كمصادر معلومات موثوقة، إلّا أن هذا التأثير المتنامي ترافقه تحديات كبيرة، أبرزها انتشار المعلومات المضللة وغياب التحقق من المعلومات.
يلعب صانعو المحتوى دورًا مزدوجًا، فمن جهة، يمكنهم أن يكونوا أدوات للتوعية والتعليم، ومن جهة أخرى، قد يتحولون إلى منصات لنشر الأخبار الزائفة والمضللة، سواء كان ذلك عن قصد أو نتيجة افتقارهم إلى المهارات اللازمة للتحقق من المعلومات، مما يجعلهم أحيانًا أدوات لنشر التضليل.
كما تُظهر الدراسات الحديثة، مثل تلك التي أجرتها اليونسكو، أن أكثر من نصف صانعي المحتوى الرقمي يفتقرون إلى آليات فعالة للتحقق من المعلومات، ومع اعتمادهم على معايير سطحية، مثل عدد الإعجابات والمشاركات لتقييم مصداقية الأخبار، يساهمون في تعزيز دورة التضليل وزيادة انتشاره.
دور صانعي المحتوى الرقمي في نشر المعلومات المضللة
كشفت دراسة أجرتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، شملت 500 مؤثر من 45 دولة، عن فجوات خطيرة في ممارسات التحقق لدى صانعي المحتوى الرقمي.
أظهرت الدراسة أن 63% من المؤثرين يفتقرون إلى ممارسات أساسية للتحقق من المعلومات، على الرغم من تأثيرهم الكبير على النقاش العام.
كما أوضحت أن العديد منهم يعتمدون على مؤشرات سطحية، مثل التفاعل الاجتماعي (الإعجابات والمشاركات)، بدلًا من الرجوع إلى المصادر الموثوقة.
نُفّذت الدراسة بالتعاون مع جامعة بولينغ غرين الحكومية في الولايات المتحدة، وخلصت إلى أن ثلثي صانعي المحتوى الرقمي ينشرون معلومات غير موثقة لملايين المتابعين، وتأتي هذه النتائج في وقت حاسم، حيث أصبح المؤثرون على مواقع التواصل الاجتماعي مصادر رئيسية للأخبار والمعلومات الثقافية للجمهور العالمي.
كما سلّطت الدراسة الضوء على أنماط تقييم صانعي المحتوى لمصداقية المعلومات، إذ يعتمد 42% منهم على مقاييس مواقع التواصل الاجتماعي، مثل "الإعجابات" و"المشاركات"، كمؤشرات رئيسية للمصداقية، بينما يشارك 21% المحتوى، بناءً على "الثقة في الأصدقاء" الذين قاموا بمشاركته مسبقًا.
وأوضحت كذلك أن وسائل الإعلام التقليدية، على الرغم من خبرتها، تحتل مرتبة متدنية كمصدر للتحقق، إذ يستعين بها فقط 36.9% من صانعي المحتوى الرقمي.
التحديات في الحقوق الرقمية
أشارت الدراسة إلى تحدٍ آخر في المشهد الرقمي، حيث يعمل ما يقرب من 60% من صانعي المحتوى دون فهم واضح للأطر التنظيمية الأساسية والمعايير الدولية، مما يجعلهم عرضة للمخاطر القانونية والتحرش عبر الإنترنت.
وفي حين أبلغ ثلثهم عن تعرضهم لخطاب كراهية، فإن 20.4% فقط يعرفون كيفية الإبلاغ عن هذه الحوادث بشكل صحيح للمنصات.
من جهتها، قالت المديرة العامة لليونسكو، أودري أزولاي، إن صانعي المحتوى الرقمي اكتسبوا مكانة مهمة في النظام المعلوماتي، حيث يتفاعلون مع ملايين الأشخاص عبر أخبار ثقافية أو اجتماعية أو سياسية. ومع ذلك، يواجه الكثيرون صعوبات في مواجهة المعلومات المضللة وخطاب الكراهية عبر الإنترنت، مما يدفعهم للمطالبة بمزيد من التدريب.
وأشارت اليونسكو إلى أنه استجابةً لهذه التحديات، تعاونت مع مركز نايت للصحافة في الولايات المتحدة لتطوير أول دورة تدريبية عالمية لصانعي المحتوى الرقمي.
وأضافت اليونسكو أن البرنامج، الذي يمتد لأربعة أسابيع، استقطب أكثر من تسعة آلاف مشارك من 160 دولة، ويقدم تدريبًا شاملًا على التحقق من المصادر، ومنهجيات التحقق، والتعاون مع وسائل الإعلام التقليدية.
دور المؤثرين وصانعي المحتوى في تشكيل الرأي العام خلال الحرب على غزة
خلال الحرب الإسرائيلية الجارية على قطاع غزة، لعب المؤثرون وصانعو المحتوى الرقمي دورًا محوريًا في تشكيل الرأي العام.
أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي ساحة رئيسية لتوجيه السرديات حول أحداث الحرب، وبفضل قدرتهم على الوصول إلى جماهير واسعة وتقديم محتوى سريع ومباشر، تمكنوا من توثيق الأحداث، ونقل المعاناة الإنسانية، وتحدي الروايات المضللة التي يروّج لها الجيش الإسرائيلي.
اعتمد العديد من المؤثرين الفلسطينيين على توثيق عمليات الاستهداف، مما ساعد في إيصال صوت المدنيين المتأثرين مباشرة بالحصار والقصف، وكان لهذا التوثيق تأثير كبير في فضح الانتهاكات الإسرائيلية.
على الجانب الآخر، استغل مؤثرون إسرائيليون ودوليون منصاتهم لدعم الروايات السياسية المختلفة، سواء المؤيدة لإسرائيل أو تلك التي تسعى لتبرير التصعيد العسكري، كما عملوا على الترويج للمزاعم الإسرائيلية والتضليل بأساليب متنوعة.
أساليب تضليل المؤثرين الإسرائيليين خلال الحرب على غزة
من بين أبرز أساليب التضليل التي اعتمدها المؤثرون الإسرائيليون خلال الحرب على غزة، استخدام الكوميديا الساخرة كوسيلة لجذب الجمهور وتمرير رسائل سياسية مغلوطة حول مجريات الحرب، ولم تقتصر هذه الأساليب على الترفيه، بل حملت أهدافًا واضحة لتشويه الواقع، والتشكيك في معاناة المدنيين.
ففي تقرير سابق عمل عليه مسبار، أشرنا إلى تغيّر ملحوظ في طبيعة محتوى العديد من المؤثرين الكوميديين الإسرائيليين، الذين تحولوا من تقديم محتوى ترفيهي عام إلى محتوى ساخر مشحون برسائل سياسية مؤيدة لإسرائيل.
على سبيل المثال، نشر المؤثر الإسرائيلي Matanel Laiany مقطع فيديو بعنوان "هذه هي البداية"، سخر فيه من معاناة الفلسطينيين في غزة، محولًا مأساتهم إلى مادة كوميدية، وتزامن نشر الفيديو مع بدء الحرب وقطع إسرائيل إمدادات المياه والكهرباء عن القطاع، وحصد تفاعلًا واسعًا.
وفي سياق مشابه، أثارت ناشطة إسرائيلية انتقادات حادة بعد نشرها مقطع فيديو تسخر فيه من معاناة الفلسطينيين جراء القصف الإسرائيلي، وظهرت في الفيديو وهي ترتدي الكوفية الفلسطينية وتضع الكاتشب على وجهها وملابسها، في إشارة ساخرة إلى أن الفلسطينيين "يتظاهرون" بالمعاناة.
وفي محاولة أخرى لتشويه واقع الحرب، نشرت المؤثرة Noya Cohen مقطع فيديو ساخرًا، ظهرت فيه متنكرة كامرأة فلسطينية تعيش تحت القصف، قدّمت في الفيديو صورة ساخرة تُظهر امرأة فلسطينية تستخدم مستحضرات تجميل مغطاة بالأتربة، واختتمت المشهد بتفجير يوحي بأن الانفجارات جزء من "حياتهم اليومية".
من الجدير بالذكر، أن المعلومات المضللة المقدمة بشكل ساخر وكوميدي لا تقل خطورة عن التضليل التقليدي، بل قد تكون أكثر تأثيرًا بسبب الطابع الترفيهي الذي يرافقها، وتجعلها تنتشر بسرعة بين جماهير واسعة، بما في ذلك الفئات غير المهتمة عادة بالقضايا السياسية.
كما أن سهولة الطرح والبساطة في تقديم هذا النوع من المحتوى تجعل الرسائل المغلوطة تبدو مقبولة لدى الجمهور، مقارنة بالتقارير الإعلامية التقليدية التي قد تتطلب مجهودًا أكبر في القراءة أو التحليل، ما يجعل التضليل عبر الكوميديا وسيلة فعالة في تشكيل الرأي العام، خصوصًا في الحروب، ويُبرز ذلك تحديات خطيرة مرتبطة بانتشار المعلومات المضللة واستغلال المؤثرين لثقة الجمهور.
العوامل النفسية والاجتماعية في تعزيز تأثير المؤثرين على الرأي العام
يستند تأثير المؤثرين في تشكيل الرأي العام إلى مجموعة من العوامل النفسية والاجتماعية، التي تعزز قدرتهم على الوصول إلى الجمهور وإقناعه، وتأتي الثقة الشخصية في مقدمة هذه العوامل، إذ ينظر المتابعون إلى المؤثرين كأصدقاء، مما يجعلهم أكثر عرضة لتصديق ما يقدمونه دون التحقق.
إلى جانب ذلك، تلعب السهولة والبساطة دورًا حاسمًا، إذ يقدم المؤثرون معلومات مختصرة ومباشرة تجذب المتابعين، على عكس التقارير الصحفية المطولة التي قد تبدو معقدة للبعض، كما أن قدرة المؤثرين على التفاعل المباشر مع جمهورهم، سواء من خلال التعليقات أو البث المباشر، تعزز من شعور المتابعين بالارتباط الشخصي، ما يزيد من تأثير الرسائل التي ينقلونها ويجعلها أكثر قوة وفعالية في تشكيل الرؤى والمواقف.
التضليل بين الإعلام التقليدي وصناع المحتوى الرقمي
تُعرف وسائل الإعلام التقليدية باتباعها إجراءات تهدف إلى التحقق من صحة المعلومات قبل النشر، مثل عمليات التحرير والمراجعة واعتماد المصادر الموثوقة. مع ذلك، لا تخلو هذه الوسائل من الوقوع في التضليل أحيانًا، خاصة عندما تُسرع في نشر الأخبار دون التحقق الكافي نتيجة المنافسة أو الضغط الزمني، مما يستدعي متابعة دقيقة لمحتواها.
من ناحية أخرى، يواجه صانعو المحتوى الرقمي تحديات أكبر في التعامل مع المعلومات، إذ يعتمد العديد منهم على السرعة والانتشار بدلًا من الدقة. ويتكرر نشر معلومات غير موثوقة أو غير مدققة بهدف تحقيق تفاعل واسع، مما يجعل هذا النوع من المحتوى أكثر عرضة للتضليل.
غياب التنظيم القانوني في المحتوى الرقمي
يواجه العالم تحديًا كبيرًا يتمثل في غياب التنظيم الواضح للقوانين التي تحكم المحتوى الرقمي، ففي العديد من الدول، لا تزال التشريعات المتعلقة بهذا المجال غير مكتملة أو تفتقر إلى التفاصيل التي تنظم نشر المعلومات أو تحاسب صانعي المحتوى عند نشرهم معلومات مضللة، ويُستغل هذا الفراغ القانوني في الترويج لأجندات سياسية، ونشر خطاب الكراهية، واستغلال المنصات الرقمية لتحقيق مكاسب شخصية على حساب المصداقية والمسؤولية.
وفي ظل غياب قوانين واضحة، تقتصر محاولات التنظيم غالبًا على سياسات المنصات الرقمية الكبرى، التي تُواجه اتهامات متكررة باتباع معايير مزدوجة أو عدم الشفافية في تطبيق قواعدها، ما يضع بعض الحكومات في مأزق، إذ تجد صعوبة في تقييد المحتوى غير الأخلاقي أو المضلل دون المساس بحرية التعبير.
في المقابل، تواجه المنصات الرقمية ضغوطًا متزايدة لتنظيم محتواها دون تدخل حكومي مباشر، وهو ما يُبرز الحاجة الملحّة إلى تشريعات دولية واضحة تحقق التوازن بين حماية حرية التعبير وضمان المسؤولية الرقمية.
فاطمة حماد/ مسبار
2024-11-29 || 21:05