للموت ألوان في معتقدات القدماء، فهناك موت أبيض وموت أحمر وموت أسود.
الموت الأبيض، ويدعى أيضا بالجارف واللافت والفاتل. وهو الموت المفاجئ، أو موت الفجأة: "وفي الحديث: لا تقوم الساعة حتى يظهر الموت الأبيض والأحمر؛ الأبيض ما يأْتي فجأة ولم يكن قبله مرض يُغيِّر لونه" (لسان العرب).
أما الموت الأحمر فهو موت الجرح أو موت القتل بالسيف. وهو أحمر لأن الروح تفارق الجسد فيه على شكل دم. في حين أن الروح تغادر في الموت الأبيض الجسد على شكل هوائي. فللروح شكلان: سائل أحمر، وهواء. ولأن الروح تأخذ شكلا هوائيا. فليس ثمة فرق بين الروح والريح، أي الهواء، في اللغة.
ولأن شكلي الروح، الدموي والهوائي، هما في النهاية شيء واحد، فإنه لا فرق أيضا بين الروح والريح والراح (أي الخمرة). فالخمرة، أي النبيذ، عديل الدم. أي أنها روح. من أجل هذا فالنبيذ مشروب (روحي). وقال المسيح حين صب النبيذ: (واشربوا هذا دمي). النبيذ هو الدم. والدم هو الروح، أو النفس. لذا، فإن الدم والنفس شيء واحد في اللغة. ولأن الدم والنفس شيء واحد يقال عن المرأة التي تلد (نفاس)، لأن دمها ينزف مع الولادة.
أما الموت الأسود، فهو موت الغرق.
والروح تخرج من الأنف في الموت الأبيض. لذا تكون العطسة خطرة دوما. فهي قد تُخرج الروح من الأنف. وبسبب هذا يكني كثير من الشعوب عن الموت بالعطاس. يقال: عطس فلان، أي مات. وهذا هو جذر عادة التشميت، أي قول يرحمكم الله، عند العطاس. فالعطسة خطر داهم. وحين تنتهي من دون موت يكون الله قد رحم العاطس وأبقى على حياته.
حتف الأنف
أما الموت الطبيعي، الذي لا يكون عن مرض ولا حادث، فيدعى (حتف الأنف)، أي موت الأنف. ويدخل في باب الموت الطبيعي الموت بمرض أو علة. وهو نقيض الموت قتلا. يقول الميداني مفسرا تعبير مات حتف أنفه، أو حتف فمه كما يقال أحيانا: "أي مات ولم يقتل. وأصله أن يموت الرجل على فراشه فتخرج نفسه من أنفه وفمه" (الميداني، مجمع الأمثال). وهذا الموت هو نفسه الموت بأجل. فحين يقال جاء أجلُ فلان، فإنما يعنون هذا الموت في الأصل، ولا يعنون القتل. غير أن هذا التفريق بين التعبيرين والموتين وهى لاحقا.
ولم يكن حتف الأنف موتا محببا عند العرب القدماء. وكانوا يفضلون عليه الموت قتلا. يقول ابن أبي الحديد عن علي بن أبي طالب: "واعلم أنه رضي الله عنه أقسم أن القتل أهون من الموت حتف الأنف" (شرح نهج البلاغة). ومشهور بيت السموأل الذي يقول فيه: "وما مات منا سيدٌ حتفَ أنفه/ ولا طلّ منا حيث مات قتيلُ". ومثله مشهور كلام خالد بن الوليد الذي يأسف فيه على نفسه لأنه يموت موتا طبيعيا رغم مئات الحروب التي شارك فيها: "وها أنا أموت على فراشي كما يموت البعير". الموت الطبيعي، أي حتف الأنف، يصلح للحيوانات لا للناس الأشداء في عرف القدماء.
"هذا دمي"
وكان يعتقد أن الحيوانات البرية لا يصيبها حتف الموت، أي أنها لا تموت موتا طبيعيا أبدا. ثمة سبب يعرض لها ويميتها. ومن دونه كانت حياتها ستستمر إلى ما لا نهاية: "قال الأصمعي: لم يمت وحشيّ حتف أنفه قط، إنما موته عن آفة" (لسان العرب). يضيف الأصفهاني أن السّمع، أي ولد الضبع من الذئب: "لا يموت حتف أنفه... وإنما هلاكه بعرض من أعراض الدنيا" (الأغاني). وهو في ذلك مثل الحية: "والسمع كالحية لا يعرف الأسقام والعلل، ولا يموت حتف أنفه، بل يموت بعرض من الأعراض يعرض له" (الميداني، مجمع الأمثال).
وحسب الجاحظ، فإن "المجوس تزعم أن [الدابة] المنخنقة والموقوذة والمتردِّية، وكل ما اعْتُبط [ذبح] ولم يمت حَتف أنفه، فهو أطيب لحما وأحلى؛ لأَن دمه فيه، والدم حلو دسم" (الحيوان). ونحن نعلم أن القرآن حرم أكل المنخنقة والموقوذة والمتردية. وأغلب الظن أن سبب التحريم هو بقاء الدم داخلها "لأن دمه فيه"، كما كان يعتقد. فالدم هو الروح: "النَّفْس: الرّوح، والنَّفْس ما يكون به التمييز، والنَّفْس: الدم" (لسان العرب).
ومسموح لك أن تأكل اللحم لا أن تأكل الروح: "لكن احترز أن لا تأكل الدم، لأن الدم هو النفس مع اللحم. لا تأكله. على الأرض تسفكه كالماء" (التوراة: تثنية 12: 23-25). لكن هذا كان هذا معتقدَ طائفة الحلة عند العرب. أما طائفة الحمس فكانت تأكل الدم، من أجل هذا سمي حلفهم باسم (حلف لعقة الدم). عليه، فللحلة اللحم، وللحمس الدم. والكون أضحية مكونة من لحم ودم. واللحم عديل الخبز. وفي بعض اللغات السامية فإن (لخم، لحم) تعني الخبز. وحين كسر المسيح الخبز، وصب النبيذ، قال: "كلوا هذا جسدي، واشربوا هذا دمي". الخبز هو اللحم، والنبيذ هو الدم.
الكاتب: زكريا محمد
الصورة: ياكوب كيركيغارد
المحرر: عبد الرحمن عثمان