نابلس تدفن تاريخها؟ جدل واسع حول ميدان سباق الخيل الروماني
في نابلس، يبرز ميدان سباق الخيل الأثري كقضية محورية تُجسّد صراعاً مريراً بين التنمية العمرانية والحفاظ على ذاكرة المدينة. هذا الموقع الهام، الذي يعود للقرن الأول الميلادي، أثار مؤخراً جدلاً واسعاً بعد منح ترخيص بناء في محيطه؛ فبينما تؤكد وزارة الآثار الالتزام بضوابط الحماية، يرى الناشطون أن الترخيص تهديد مباشر لذاكرة المدينة.
في قلب مدينة نابلس، بينما تتمدد الأبنية الحديثة فوق تاريخٍ عمره قرون، تظهر المواقع الأثرية التي شكّلت هوية المدينة الرومانية القديمة "نيابوليس"، ويبرز ميدان سباق الخيل الروماني مثالاً صارخاً على صراعٍ مستمر بين الحفاظ على الإرث التاريخي وضغوط التوسع العمراني.
الميدان الذي تم اكتشافه عام 1980، أي قبل نحو خمسةٍ وأربعين عاماً، يُعدّ من أهم المواقع التي تعود إلى أواخر القرن الأول الميلادي، بالتزامن مع تأسيس مدينة "نيابوليس" الرومانية – الاسم القديم لنابلس، استخدم حتى القرن الثالث الميلادي، ثم جرى تفكيك أجزاء كبيرة منه عندما استعان الرومان بحجارته لبناء مسرحٍ آخر في المدينة.
في الآونة الأخيرة، أثار منح تصريح بناءٍ في منطقة ميدان سباق الخيل الروماني بمدينة نابلس جدلاً واسعاً بين الجهات الرسمية والمهتمين بالتراث. فبينما تؤكد وزارة السياحة والآثار أن الترخيص تم وفق ضوابط تحافظ على الطبقة الأثرية، يرى ناشطون ومختصون أن السماح بالبناء في موقع أثري يُعدّ تهديداً مباشراً لذاكرة المدينة التاريخية.
في هذا السياق، يشير الأكاديمي والمختص بالآثار الرومانية لؤي أبو السعود إلى أن ما يميز هذا الميدان عن غيره من المواقع الرومانية في فلسطين هو تكامله مع البنية المعمارية المحيطة به، إذ كان متصلاً بالمسرح الروماني المجاور ويُستخدم في الاحتفالات والعروض العامة.
ويضيف أبو السعود أن المواد الحجرية التي استُخدمت في بنائه تشهد على مهارة الهندسة الرومانية ودقتها، وأن أجزاءً من حجارة الميدان نُقلت في العصور اللاحقة لاستخدامها في بناء منشآت أخرى، مثل المسرح الروماني الثاني في نابلس.
برشلونة وروما وباريس
ويؤكد أبو السعود أن الضرر الذي لحق بالموقع لم يبدأ اليوم، بل تراكم عبر عقود من الإهمال. فمنذ سبعينيات القرن الماضي بدأت أعمال البناء الحديثة تقترب من حدود الميدان، دون وجود قوانين أو سياسات تنظم علاقة التطوير العمراني بالمواقع الأثرية. ويعقب أبو السعود: "الأخطاء القديمة التي ارتُكبت في فترات غياب التشريعات، خصوصاً خلال فترة الاحتلال، جعلتنا اليوم ندفع ثمن فقدان أجزاء مهمة من الميدان".
ويرى أبو السعود أن طمس المعالم الأثرية لا يعني فقط خسارة موقع أثري، بل خسارة جزء من هوية المدينة وذاكرتها التاريخية. فميدان سباق الخيل ليس مجرد بقايا حجرية، بل سجلٌّ حضاري يروي حكاية تطور نابلس على مدى قرون. ويضيف أبو السعود أن الاحتلال الإسرائيلي نقل في الثمانينيات أجزاء من الموقع إلى متاحف داخل إسرائيل، ما جعل المدينة تفقد جزءًا من تراثها المادي، في وقت لم يتم فيه إنشاء متحف محلي يعرّف بتاريخها ويحتضن آثارها الأصلية.
ورغم كل ما فُقد، لا يزال هناك أمل في حماية ما تبقى من الميدان. ويقترح أبو السعود حلولاً هندسية وسياحية مبتكرة مستوحاة من تجارب عالمية، مثل إنشاء مسارات سياحية تحت الأرض أو السماح بالبناء على أعمدة، بما يتيح الحفاظ على الآثار في باطن الأرض دون المساس بها. ويقول: "في مدن مثل برشلونة وروما وباريس، نجحوا في دمج التراث بالحياة الحديثة دون أن يدفنوا التاريخ تحت الباطون، وهذا ما نحتاج إليه في نابلس".
نابلس تُدفن تحت الإسمنت
ومن جهته، يؤكد الناشط في حماية التراث رفيق الحداد أن ميدان سباق الخيل الروماني في نابلس ليس مجرد موقع أثري، بل جزء من هوية المدينة وذاكرتها التاريخية الممتدة منذ العصور الرومانية والبيزنطية. ويوضح أن الميدان كان يمتد من أسفل مجمع المدينة التجاري شرقاً حتى منطقة "المطحنة" قرب مدرسة الكندي، بطولٍ يُقدّر بنحو 350 متراً، وكان يتسع لنحو 25 ألف متفرج يجلسون على مدرج حجري ضخم يضم 15 درجة.
ويقول الحداد: "هذا المكان كان شاهداً على حضارة عظيمة، حيث أقيمت فيه سباقات الخيل ومصارعة المحاربين والوحوش، وكان يُعرف بالقصر الرياضي، وهو مسرح مغلق شبيه بالمدرج الروماني لكنه مخصص للرياضات القتالية لا للعروض المسرحية". لكن هذه القيمة التاريخية، كما يوضح الحداد، "تُدفن اليوم تحت الإسمنت"، بعدما تحوّل جزء كبير من الميدان إلى منطقة سكنية وتجارية، فيما سُمح بالبناء على أراضٍ مصنفة أثرية، رغم أن القانون يمنع ذلك.
ويضيف: "في نابلس، تبنى العمارات فوق التاريخ، بينما في مدن مثل جرش الأردنية، الآثار تجلب ملايين السياح سنوياً. الفرق أن هناك وعياً وقانوناً يُطبّق، وهنا الإهمال والفساد يفتحان الباب للعبث بالإرث الحضاري". ويشير إلى أن المشكلة لا تتوقف عند الزحف العمراني، بل تتجاوزها إلى غياب الوعي والاهتمام من قبل الجهات الرسمية، قائلاً: "وزارة السياحة والآثار نفسها تفتقر إلى رؤية حقيقية للحماية، فهناك من لا يقدّر قيمة هذه المواقع، وهناك أيضاً من يفضّل المصالح المادية على الحفاظ على التاريخ".
ويروي الحداد تجربته السابقة في الدفاع عن موقع أثري في حيّ الخضر بنابلس، حين تدخل لوقف بناء مدرسة فوق أرض تحتوي على آثار رومانية وبيزنطية، منها ممرات فسيفسائية وأعمدة حجرية. ويقول: "دخلت في صراع مع البلدية والسياحة، واتُّهمت بأني أُعطل المشاريع، لكن ما كنت أريده هو فقط أن يتم الحفر بطريقة علمية، كما يفعل علماء الآثار في العالم. لكن النتيجة كانت أن الآثار أُزيلت بالكامل، وبُنيت فوقها المدرسة دون أي احترام لتاريخ المكان".
ويرى الحداد أن أحد أهم الحلول هو تفعيل قانون الاستملاك الأثري، الذي ينص على تعويض أصحاب الأراضي التي تحتوي على آثار وتحويلها إلى ملكٍ لوزارة السياحة والآثار، ما يمنع البناء فوقها. لكنه يشدد على أن هذا القانون "مُعطل وغير مطبق"، إذ غالباً ما تُترك الأراضي بيد أصحابها دون تعويض، فيواصلون البناء عليها لتفادي الخسارة. ويدعو الحداد إلى إدماج الوعي الأثري في التعليم والجامعات والمجتمع المحلي، مؤكدًا أن الآثار ليست حجارة صامتة، بل "دليل على وجودنا التاريخي المتجذر في هذه الأرض منذ الكنعانيين مروراً بالرومان والبيزنطيين والعرب والمسلمين حتى اليوم". ويختم بالقول: "الآثار ليست رفاهية ثقافية، إنها هويتنا وذاكرتنا الجمعية، ودفنها يعني أننا ندفن تاريخنا بأيدينا".
في المقابل، يوضح ضرغام فارس، مدير دائرة الآثار في نابلس، أن الإشكاليات المتعلقة بالبناء في الموقع ليست جديدة، إذ إن الأبنية القائمة في محيط الميدان "تعود إلى فترات سابقة حتى قبل قيام السلطة الفلسطينية"، ما جعل التعامل مع المنطقة أكثر تعقيداً. ويقول: "الوزارة لم تكن تمتلك في السابق تصوراً واضحاً لكيفية التعامل مع الأراضي التي تقع ضمن حدود المواقع الأثرية، لذلك كان الرفض شاملاً لأي ترخيص بناء. لكن مع الوقت، وازدياد الضغط من المواطنين أصحاب الأراضي، جرى تشكيل لجنة مختصة تضم خبراء آثار من جامعة النجاح وجامعة القدس وممثلين عن الوزارة، لدراسة المنطقة بشكل علمي وتحديد مناطق الممنوع والمسموح والمشروط في البناء".
ويشرح فارس أن اللجنة صنّفت أراضي ميدان سباق الخيل إلى ثلاث فئات: مناطق يُمنع البناء فيها تماماً، وأخرى يُسمح فيها بشروط محددة مثل البناء على أعمدة للحفاظ على الطبقة الأثرية، وأجزاء يمكن البناء فيها بعد فحصها ميدانياً. ويضيف موضحاً: "التراخيص في مثل هذه المواقع لا تصدر بشكل فردي أبداً، حتى الوزير نفسه لا يوقّع دون مرور القرار على الجهات الفنية المختصة في الوزارة. واللجنة الفنية تُراجع كل قطعة أرض حسب نتائج الفحوص الأثرية، وبناءً عليها يتم منح أو رفض التصريح".
ويؤكد فارس أن الوزارة لا تمنح تراخيص بناء، بل تصدر ما يسمى بـ"عدم ممانعة" أو "تصريح" يُشير إلى أن الموقع لا يتعارض مع المصنف الأثري. أما الترخيص الفعلي، فهو من اختصاص بلدية نابلس، بعد استيفاء الشروط العمرانية والتنظيمية. ويقول: "الوزارة دورها حماية الموروث الأثري، بينما تنظيم البناء والارتدادات من اختصاص البلدية، لكن لا يمكن لأي جهة أن تتجاوز موافقتنا إذا كان الموقع أثرياً".
وفيما يتعلق بميدان سباق الخيل الروماني والجدل حول منح تصريح بناء في أحد أجزائه، يوضح فارس أن القرار جرى وفقاً للضوابط السابقة، وبطريقة لا تمس الطبقات الأثرية. ويوضح: "الترخيص مشروط بالبناء على أعمدة، بحيث تبقى الأرض الأثرية أسفلها محفوظة ومملوكة للوزارة، ويمكن مستقبلاً الكشف عنها أو عرضها. نحن لا نخفي شيئًا، لكن الناس لا يطّلعون على تفاصيل التصاريح الفنية، فيظنون أن البناء تمّ فوق الآثار مباشرة، وهذا غير صحيح". ويضيف فارس أن دائرة الآثار تعمل ضمن نظام صارم لا يسمح لأي موظف بإصدار ترخيص بشكل منفرد، وأن كل الإجراءات تتم بالتنسيق مع مختصين من داخل الوزارة وخارجها.
كما يشير إلى أن الوزارة، رغم محدودية إمكاناتها، تمتلك خطة لحماية المواقع الأثرية في المدينة وتطويرها سياحياً، مؤكداً أن دورها لا يقتصر على المنع بل على صون التراث وترويجه. ويختم فارس بالتأكيد على أن الوزارة "لن تفرّط بأي موقع أثري مهما كانت الضغوط"، مشددًا على أن الحل يكمن في توفير بدائل عادلة لأصحاب الأراضي المتضررين، من خلال تفعيل قانون الاستملاك أو استبدال الأراضي الحكومية، دون المساس بالمواقع التاريخية.
الكاتبة: علا مرشود
دوز
2025-11-21 || 18:32