ويكيبيديا.. موسوعة حرة أم ساحة صراع على السردية الفلسطينية؟
في عصر الثورة الرقمية، امتدت الحرب على فلسطين لتشمل الفضاء المعرفي العالمي، حيث تحوّلت الموسوعة الحرة "ويكيبيديا" إلى ساحة صراع محتدمة للتحكم بالسردية التاريخية. التقرير يكشف كيف هيمنت الرواية الإسرائيلية على الفهم العالمي للأحداث منذ النكبة، مستغلة تحديات فلسطينية معقدة.
في عالم رقمي تتسارع فيه الأحداث يومياً وتتزايد فيه قوة المعلومات، لم تعد الحرب على فلسطين محصورة في الأرض وحدودها السياسية فقط، بل امتدت المعركة إلى الفضاء الرقمي، حيث تعددت السرديات عبر الموسوعة الحرة "ويكيبيديا"، وذلك على مستوى المصطلحات، الخرائط، المصادر والمراجع الأولية للأحداث التاريخية، وحتى الصور والروابط الرقمية والتي أثرت بدورها على فهم وتصور العالم للقضية الفلسطينية.
منذ العام 1948 هيمنت الرواية الإسرائيلية على الفهم العالمي للأحداث الجارية في فلسطين، حيث تم الترويج للنكبة الفلسطينية على أنها حرب الاستقلال "للإسرائيليين"، ومن بعد ذلك تفاقم التلاعب والتحريف للسرديات في ظل وجود إعلام غربي منحاز بشكل عام لإسرائيل.
وفي ظل الثورة الرقمية الحديثة، حاولت إسرائيل تضليل العالم بشكل أوسع وغزو أفكار الأجيال المتعاقبة من خلال إخفاء الحقائق التاريخية والمجازر التي ارتكبتها، وما نتج عنها من أحداث مأساوية للشعب الفلسطيني، مستغلة تحديات معقدة يواجهها الفلسطينيون أهمها: قلة المصادر الأولية الفلسطينية، صعوبة وصول الفلسطيني إلى أرشيفه الوطني بعد أن عمل الاحتلال على مدار سنوات عديدة على تدميره وتشتيته في بلدان مختلفة، بالإضافة إلى عدم إدراك بعض المؤسسات الفلسطينية التي تعنى في مجال الأرشيف والرقمنة مدى أهمية "ويكيبيديا" كموسوعة عالمية مفتوحة وموجود بلغات متعددة في توثيق الرواية الفلسطينية والذاكرة الجمعية.
لماذا ويكيبيديا؟
تُعدّ ويكيبيديا أكبر موسوعة رقمية، والمصدر الأول للمعلومات لمئات الملايين من المستخدمين حول العالم، إذ تُسجّل أكثر من 500 مليون زيارة شهريا، وتُعدّ خامس أكثر موقع إلكتروني زيارةً عالميا، بمعدل يقارب 8000 مشاهدة في الثانية الواحدة -بحسب إحصائيات منشورة على الموسوعة نفسها-.
هذه الأرقام تعبّر عن قوة المنصة في تشكيل الوعي العالمي حول قضية ما والمعرفة العامة، حيث تقوم ويكيبيديا على مبادئ البرمجيات الحرة (Open Source) والمشاركة المجتمعية، ما يعني أن كل شخص يمكن أن يضيف، يعدّل، يصحّح، أو يثري المقالات، في إطار من العمل التطوعي والحوارات المجتمعية المفتوحة. هذه النقاشات تتيح تبادل الآراء المختلفة وبناء معرفة جماعية. وبالرغم من أنها ليست مصدر رسمي، إلا أن المقالة التي تُكتب أو تُحرَّر على ويكيبيديا تصبح مرجعا يستند إليه في الجامعات والمدارس، والنقاشات الإعلامية، وحتى في القرارات السياسية في غالب الأحيان. لذلك، المشاركة في تحرير ويكيبيديا ليست عملا عابرا، بل مساهمة مباشرة في صياغة السرد العالمي.
تقول الباحثة في الإعلام الرقمي مسعدة شديد: إن ويكيبيديا تتجاوز كونها منصة إلكترونية، فهي تغدو فضاءً واسعاً لممارسة المواطنة الرقمية بكل محاورها، نظرا لقدرتها على إتاحة الفرصة لكل فرد أن يُشارك في صياغة تاريخه وتجاربه الواقعية. بما يشمل المشاركة فلسطينياً في الدفاع عن السردية الأصيلة، وحماية فعلية للذاكرة الجمعية المُهدّدة بالتزوير، وللتأكيد على حق الشعب في أن يكتب روايته في سجل الكونية الرقمية.
وتضيف الباحثة شديد، "أن الوجود الفلسطيني الفعال على الشبكة هو فعل مقاومة معرفية، وعليه فإن التقاعس عن إثراء أو تصويب المحتوى الرقمي الفلسطيني هو بمثابة تسليم للرواية، بالإضافة لذلك يقع على عاتقنا كفلسطينيين رفع مستوى مقالاتنا بتدعيمها بسياج المصادر الحصينة، وأن نُطوّر محتواها بما يوازي قداسة قضيتنا ونبلها. وفي هذا السياق، تغدو المصادر الموثوقة من كُتب ومراجع محكمة وصحف عالمية، هي العمود الفقري الإبستيمولوجي لكل مشاركة ذات أثر حقيقي".
وتصف شديد ويكيبيديا بالملحمة الرقمية، لكونها خير دليل على قوة الإرادة المعرفية الجمعية. وذلك ما أثبتته التجارب الواقعية، التي تفيد بأن التعاون اللامركزي قادر على صك جوهر الدقة والموثوقية. ومن هنا، فإنّ المحررين ليسوا مجرد كُتّاب عابرين، بل هم حُراس البوابة للذاكرة الجمعية والمعرفة الرقمية. وعليه تضيف: "كل تعديل هو بصمة وجود، وكل مصدر مُضاف هو شعاع قوة يُعزز الرواية ويُثبت الأثر".
وتختتم الباحثة حديثها بالتأكيد على أن الجهد التطوعي في هذا السياق ليس مجرد اكتساب لـخبرة رقمية عابرة، بل هو إحساس عميق بـ "قيمة الذات الفردية" في تحقيق التوازن المعرفي ونقل الحقيقة المُجرّدة وهو ما يعد جوهر المواطنة الرقمية الفاعلة، وعليه يجب تعميق النقاش حول "سفراء ويكيبيديا" وخاصة للشباب والمُتعطشين للمعرفة لكي ينضموا إلى هذا المشروع المعرفي النبيل، والمشاركة في بناء فضاء أكثر عدالة وتوازنا، حيث لا يسمح للسرد المضاد أن يطغى على الرواية الفلسطينية الأصيلة.
موسوعة حرة أم ساحة صراع؟
ينظر إلى ويكيبيديا أنها موسوعة مفتوحة للجميع وأنها امتداد للمعرفة البشرية وتساهم في تكوين المعرفة بين المجتمعات المختلفة، لكن في الحالة الفلسطينية الواقع يبدو أكثر تعقيداً. المقالات الفلسطينية، خاصة المتعلقة في مواضيع سياسية وجغرافية مثل: "النكبة" و"القدس" و"الأراضي المحتلة"، تتعرض بشكل مستمر لمئات التعديلات، بهدف التحكم بالسردية التاريخية. هذا يعني أن التعديل الرقمي على الصفحة لا يتعلق بالمعلومات فقط، بل بالمعنى والوعي، ومن يملك القدرة على التأثير في الرأي العام العالمي.
النسخة الإنجليزية من ويكيبيديا تحتوي على معلومات تفصيلية أكثر، لكنها تميل نحو السردية الإسرائيلية في كثير من الأحيان نظرا لعدد المحررين الكبير من الجانب الإسرائيلي، في حين أن النسخة العربية أقل نشاطا وأكثر عرضة للتغييرات المتكررة، ما يخلق فجوة معرفية حقيقية. تشير دراسة للباحثة علا يوسف من جامعة القدس – أبو ديس إلى أن هناك فجوة كبيرة في تمثيل الرواية الفلسطينية على ويكيبيديا. ويعزى السبب إلى قلة عدد المحررين الفلسطينيين النشطين، ضعف الموارد الرقمية المفتوحة، تحيّزات تحريرية ومراجعات تميل للطرف الآخر. تظهر هذه الفجوة في الاختلاف بين النسختين العربية والإنجليزية، وكذلك في نسبة التعديلات الفلسطينية.
هدفت الدراسة إلى تحليل الفجوات التوثيقية في مقالات ويكيبيديا المتعلقة بالذاكرة الفلسطينية، وقياس مستوى مساهمة المجتمع الفلسطيني في توثيق روايته التاريخية على المنصة، إلى جانب تقييم تأثير المحتوى الفلسطيني على وعي الأجيال والرأي العام العالمي. كما تناولت الدراسة الإستراتيجيات والتحديات المرتبطة بتوثيق الذاكرة الجمعية الفلسطينية رقمياً.
وتوصلت إلى أن ضعف التنسيق بين المؤسسات الرسمية والمتطوعين، وغياب رؤية وطنية شاملة للتوثيق الرقمي، وتبعثر الجهود الفردية، عوامل أساسية تؤدي إلى فجوة واضحة في حضور الرواية الفلسطينية على ويكيبيديا. وأوصت الدراسة بضرورة وضع إستراتيجية وطنية لتوثيق الذاكرة الفلسطينية رقمياً، تشمل: تدريب الطواقم الإعلامية والأكاديمية على التحرير في ويكيبيديا ومتابعة المحتوى لضمان دقته، تعزيز الشراكات بين الويكيبيديين والمؤسسات الأرشيفية والأكاديمية الفلسطينية، دعم مبادرات التطوع الرقمي وتشجيع الطلبة على المساهمة في إثراء المحتوى الفلسطيني، مراجعة المقالات المؤثرة وتحديثها باللغتين العربية والإنجليزية لتصحيح الانحيازات وتعزيز حضور السردية الفلسطينية عالمياً. بهذا، تؤكد الدراسة أن بناء حضور فلسطيني فاعل على ويكيبيديا يعد خطوة إستراتيجية في معركة الذاكرة والرواية الرقمية.
أصوات من الميدان الرقمي
في الميدان الرقمي، يواجه المحررون الفلسطينيون تحديات مستمرة. ومع كل تعديل، تظهر الحاجة إلى الدفاع عن المضمون الأصلي، والتحقق من المصادر، والتعامل مع ضغوط جماعية أو فردية.
جيهان إسماعيل، محررة فلسطينية من رام الله، تروي تجربتها في الكتابة على ويكيبيديا تقول: بدأت أكتب عن القرى الفلسطينية بشكل عام، ولاحظت بالتعديل السريع عليها خاصة التي أقوم بكتابتها باللغة الإنجليزية. فهمت حينها أن الصراع الرقمي ليس على المعلومات فقط، بل على من يملك حق قولها كما يحدث من تقييد لصفحاتنا على وسائل التواصل الاجتماعي. كما حاولت استخدام صور أرشيفية وشهادات شفوية، لكن وجدت حذفاً متكرراً وتعديلاً مستمراً بعد كل نشر.
وتوضح إسماعيل، أن العملية تكون في غالب الوقت أكثر تعقيداً حين رفعت صورا أرشيفية لبيوت مهجّرة، رُفضت في البداية لعدم وجود ترخيص، وبعد تقديم الوثائق الأصلية حصلت على الموافقة. "كل تعديل كان بالنسبة لي يبدو وكأنه معركة على الاعتراف بالوجود. كل مقالة، كل صورة، هي محاولة لاحتواء الذاكرة الفلسطينية في الفضاء الرقمي". إسماعيل تشير إلى أن كل خطوة تتطلب تدقيقا قانونيا وأكاديميا، مما يعكس تحديا مزدوجا: الحاجة إلى التوثيق الرقمي ومواجهة الإجراءات التحريرية التي قد تمحو الذاكرة.
من ناحيته، قال مدير فرع جامعة القدس المفتوحة في سلفيت الدكتور خليل عبد الرازق: إن اعتماد مساق جامعي متخصص في مهارات التحرير على ويكيبيديا لم يعد خيارا إضافيا، بل حاجة أكاديمية ووطنية ملحّة في ظل التحولات المتسارعة في فضاء المعرفة الرقمية.
وأوضح أن ويكيبيديا، باعتبارها أكبر موسوعة مفتوحة في العالم، أصبحت المصدر الأول الذي يلجأ إليه الطلاب والباحثون وصنّاع السياسات وحتى الجمهور العام عند البحث عن أي معلومة، الأمر الذي يجعل من غياب الحضور الفلسطيني المنظم داخلها فجوة خطيرة تُستغل لإعادة صياغة الرواية أو التأثير على الوعي العام والذاكرة، حيث تتعرض المصطلحات والسرديات الفلسطينية لمحاولات مستمرة لإعادة التأطير أو الطمس.
وأضاف أن المشكلة لا تتعلق فقط بندرة المحتوى الفلسطيني أو نقص المصادر المفتوحة، بل تمتد إلى قلة المحررين الفلسطينيين المدربين على سياسات الموسوعة، ما يجعل أي تعديل فلسطيني معرضا للحذف السريع أو الرفض من قبل مجموعات تحرير أكثر تنظيما. وأشار عبد الرازق إلى أن هذه الفجوات تضع الجامعات أمام مسؤولية مباشرة لتأهيل جيل قادر على إنتاج محتوى موسوعي موثّق، يتمتع بمهارات البحث والتحقق، ويعرف كيفية حماية المعلومات من التحيّز والتلاعب.
واقترح الدكتور خليل أن يتم اعتماد مساق جامعي متخصص في مهارات التحرير في ويكيبيديا، ليكون إلزاميا لطلبة الإعلام والتاريخ، ويكون متاحا للطلاب ضمن المساقات التطوعية والأنشطة المجتمعية، بحيث لا يكون مجرد تدريب تقني، بل إطارا معرفيا متكاملا يعلّم الطلبة أساليب الكتابة الموضوعية، واستخدام الأرشيفات الرقمية الفلسطينية، وتحليل السياسات التحريرية، والتعامل مع التحديات التي تواجه السردية الفلسطينية داخل الموسوعات العالمية، والتحقق من المصادر، وحماية المحتوى من التعديلات المؤدلجة.
وأشار إلى أن اعتماد هذا المساق سيحدث أثرا تراكميا مهما، يتمثل في تحسين جودة المحتوى الفلسطيني على ويكيبيديا، وزيادة عدد المحررين القادرين على الدفاع عن الرواية الوطنية بطريقة مهنية، وخلق أرشيف رقمي مفتوح يخدم الباحثين، تعزيز دور الجامعات في الساحة الرقمية والمعرفية العالمية.
وأضاف إن إدماج التحرير في ويكيبيديا داخل المناهج الجامعية يمثل خطوة إستراتيجية لبناء سردية فلسطينية موثوقة في فضاء المعرفة العالمي، ويحوّل الطلاب إلى فاعلين رقميين مؤثرين قادرين على حماية التاريخ والهوية من محاولات التشويه أو المحو، من خلال تعزيز مهارات التحقق والبحث العلمي لدى الطلبة، وبناء قدرات الكتابة الموضوعية وفق المعايير الموسوعية، وتطوير حضور فلسطيني منظم داخل الموسوعات الرقمية، وتحويل التطوع الرقمي إلى عمل مؤسسي.
مبادرات توثيق الذاكرة الفلسطينية عبر الإنترنت
على مدى العقدين الماضيين، شهد الفضاء الرقمي الفلسطيني طفرة نوعية في مجال توثيق الذاكرة الجماعية، عبر مبادرات رقمية متنامية هدفها حماية الرواية الفلسطينية من الطمس والضياع. هذه المبادرات لم تقتصر على نقل الذاكرة فقط، بل أسست لمرحلة جديدة من الأرشفة الرقمية التفاعلية، التي تتيح للمستخدمين في الوطن والشتات المساهمة في كتابة التاريخ الفلسطيني بأدوات رقمية مفتوحة.
ومن أبرز هذه المبادرات:
منصة الذاكرة الفلسطينية الرقمية Digital Palestinian Memory Platform تحاول سد الفجوة الرقمية، لكنها تعتمد على الجهد الطوعي والتمويل المحدود، ما يجعل العملية بطيئة ومعقدة. تهدف إلى حفظ وتوثيق تاريخ وثقافة الشعب الفلسطيني من خلال جمع المواد الرقمية التي تمثل الذاكرة الجماعية للأجيال الفلسطينية تمويل هذا المشروع من قبل وزارة الثقافة الفلسطينية، بالتعاون مع الصندوق الثقافي الفلسطيني، حيث يسعى المشروع إلى تعزيز الوعي الثقافي الفلسطيني وتعريف العالم بتاريخ وتراث فلسطين من خلال الوسائط الرقمية الحديثة.
موقع "فلسطين في الذاكرة" (Palestine Remembered) يُعد من أقدم المشاريع الفلسطينية الرقمية، أُطلق عام 2000، ليكون منصة مفتوحة لحفظ الذاكرة الوطنية وتوثيق القرى والمدن التي دُمّرت أو هُجّر سكانها خلال نكبتي 1948 و1967. يضم الموقع آلاف الصور، الوثائق، الخرائط، والشهادات الشخصية، ويتيح للزوار التفاعل والمشاركة في إثراء محتواه. شكّل هذا المشروع نواة لعدد من المبادرات اللاحقة، وأحد أهم المراجع الرقمية للباحثين والمهتمين بتاريخ القرى الفلسطينية المهدّمة.
مشروع التاريخ الشفوي للنكبة الفلسطينية: انطلق عام 2003 كمبادرة فرعية ضمن موقع "فلسطين في الذاكرة"، إدراكًا لأهمية الرواية الشفوية في حفظ الذاكرة. ركّز المشروع على إجراء مقابلات مباشرة مع شهود النكبة واللاجئين الأوائل، لتوثيق تجاربهم وقصصهم قبل أن تندثر. حتى عام 2020، أُجري أكثر من 600 مقابلة موثقة بالصوت والصورة، متاحة للباحثين والمهتمين عبر الإنترنت، وتشمل مقالات وأفلامًا قصيرة ووثائق من القرى الفلسطينية المدمّرة.
أرشيف النكبة: تأسس عام 2002 في لبنان، ليجمع أكثر من 500 مقابلة مع الجيل الأول من اللاجئين الفلسطينيين. يركّز المشروع على البعد الإنساني والاجتماعي للنكبة، مسلطًا الضوء على تأثيرها في الوعي الجماعي والهوية الفلسطينية. يتوفر محتوى المشروع باللغة العربية من خلال مكتبة التاريخ الشفوي الفلسطيني (POHA) التابعة للجامعة الأمريكية في بيروت، وهو أحد أهم المراجع الأكاديمية في دراسة النكبة وتجارب اللاجئين.
مشروع "أرشيف المتحف الفلسطيني الرقمي": يمثل خطوة مؤسسية متقدمة في مجال الرقمنة الثقافية. بدأ عام 2018، وتوسّع في مرحلته الثانية عام 2021، ليضم آلاف المواد الأرشيفية (صور، وثائق، تسجيلات صوتية، أعمال فنية) تم رقمنتها بعناية، لتكون متاحة مجانًا عبر موقع إلكتروني مفتوح باللغتين العربية والإنجليزية. يقدّم المشروع سردية فلسطينية تمتد لأكثر من قرنين، تنطلق من منظور التاريخ الاجتماعي القاعدي، الذي يضع الإنسان الفلسطيني العادي في مركز السرد. كما يسعى إلى تعزيز ثقافة الحفظ الرقمي، والتأكيد على أن الأرشيف ليس فقط لحماية الماضي، بل لفهم الحاضر وبناء المستقبل.
الموسوعة التفاعلية الخاصة بالقضية الفلسطينية: أطلقتها مؤسسة الدراسات الفلسطينية بالتعاون مع المتحف الفلسطيني، لتكون مرجعًا علميًا شاملاً للقضية الفلسطينية من نهايات العهد العثماني حتى اليوم. تتوزع موادها على ستة أقسام رئيسية: جدول الأحداث الكلي، الجداول الموضوعاتية، أضواء، أعلام، أمكنة، ووثائق. وتوفّر الموسوعة محتواها باللغتين العربية والإنجليزية، لتخاطب الأكاديميين والطلاب والإعلاميين والجمهور العام، مقدّمة سردية فلسطينية موضوعية ومتكاملة في مواجهة السرديات المتحيّزة.
يعد هذا جزءا من المشاريع الواسعة عبر الإنترنت الهادفة إلى حفظ الذاكرة والرواية الفلسطينية بشكل عام، إلا أن معظمها لم يكن مرتبطا مباشرة بويكيبيديا، بل انطلق من مبادرات فردية أو من خلال مشروع "ويكي فلسطين".
مشروع "ويكي فلسطين": من المبادرات الحديثة التي تربط بين الأرشفة الرقمية والمشاركة الويكيبيدية، أطلقه مركز "إعلام" لحرية الإعلام ومدى الكرمل – المركز العربي للدراسات الاجتماعية التطبيقية، عام 2022، بمشاركة طلبة جامعيين فلسطينيين تلقّوا تدريبا على التحرير في الموسوعة الحرة "ويكيبيديا". نجح الطلبة في إنشاء وتعديل أكثر من 500 مقالة تتناول شخصيات فلسطينية، وأحداث سياسية وثقافية واجتماعية، رغم الصعوبات الناتجة عن سياسات الحذف والمراجعة في المنصة.
وفي عام 2023، أُطلقت الدورة الثالثة من المشروع بعنوان "ويكي فلسطين – الموسوعة الحرة"، بهدف توسيع الوجود الفلسطيني الرقمي وجذب متطوعين جدد من المدارس والجامعات والنقابات والمؤسسات الثقافية، لترسيخ ثقافة التطوع الرقمي والمواطنة المعرفية.
ويعنى المشروع بشكل أساسي في إطار عمله بجميع المقالات المتعلّقة بفلسطين ويهدف مشروع ويكي فلسطين إلى توحيد وتنظيم أسلوب المقالات المتعلقة بفلسطين في ويكيبيديا، وتحسين تغطية ويكيبيديا لمقالات فلسطين وذلك بتوسيع وتطوير المقالات المتعلقة بها وأن يكون المشروع مرجعا للنقاش حول القضايا المتعلقة بفلسطين في ويكيبيديا، ولطلب المساعدة أو الاستشارة وتوفير الأدوات المساعدة في تسهيل العمل على مقالات فلسطين، وتقديم الدعم التقني عند الحاجة.
وبحسب البيانات المنشورة على صفحتهم عبر منصة "فيس بوك" حتى تاريخ 8 نوفمبر 2025، كان هناك 17٬138 مقالة تقع في إطار عمل المشروع، منها 51 مقالةً مختارةً و32 مقالةً جيدةً، و1 قائمةً مختارةً. جميع صفحات نقاش هذه المقالات تحتوي قالب مشروع ويكي فلسطين. كما توجد على ويكيبيديا العربيَّة 13٬026 مقالة متعلقة بفلسطين، حصدت خلال الشهر الماضي قرابة 3 مليون زيارة. بحسب بيانات نشرت على صفحة ويكي فلسطين.
ضرورة ملحة
تُظهر هذه المبادرات أن الفلسطينيين انتقلوا من مرحلة الدفاع عن الذاكرة إلى مرحلة إنتاجها ورقمنتها، أي من حفظ التاريخ إلى كتابته رقميًا بمبادرتهم الخاصة. هذه الجهود تمثّل مقاومة ثقافية ومعرفية في مواجهة محاولات التزوير والإخفاء، كما تعكس وعيا جديدا بأن من يمتلك أدوات السرد الرقمية يمتلك القدرة على صياغة التاريخ وتوجيه الوعي الجمعي العالمي.
وكان التحول الأبرز في هذه المشاريع أنها لم تعد تقتصر على الباحثين أو المؤسسات، بل فتحت المجال أمام المجتمع الفلسطيني بكل أطيافه للمشاركة في عملية التوثيق، لتصبح الذاكرة الفلسطينية مشروعا مفتوحا ومشتركا يتجاوز الجغرافيا ويقاوم النسيان.
إن تجارب المحررين الفلسطينيين تثبت أن الأمثلة الواقعية على الحذف والتعديل ليست حالات منفصلة، بل نمط ثابت يُظهر مدى التحدي في الحفاظ على الرواية الفلسطينية. كل تدخل فلسطيني لإعادة الصياغة أو إضافة المصادر المحلية هو بمثابة معركة مصغرة ضد محاولات الطمس والتحريف، ويمكن القول إن هذه المعارك اليومية على صفحات ويكيبيديا تشكل حجر الأساس في استراتيجية أوسع للوجود الرقمي الفلسطيني، حيث تصبح كل صفحة منقحة رمزا للمقاومة وصوتا فلسطينياً جديداً.
بينما يكتب هذا التقرير، هناك بالتأكيد محرر فلسطيني في بقعة جغرافية ما يعيد كلمة "احتلال" ويظهر الواقع الذي يعشيه الفلسطيني على أرضه، وآخر يراقب التعديلات ويستعد لإعادة نشر مقالة عن قرية مهجّرة.
الفجوة الرقمية ليست مجرد نقص في المقالات، بل معركة على الرواية والهوية والمكانة في الذاكرة العالمية. استعادة السردية الفلسطينية رقمياً ضرورة ملحة لا تقل أهمية عن الدفاع الميداني؛ فكل صفحة محررة تمثل استمرارا للوجود الفلسطيني في العالم الرقمي، وتضمن أن يكون للقصة الفلسطينية صوتها الذي لا يُمحى بسهولة.
الكاتبة: علا يوسف
دوز
2025-11-21 || 21:03