الصهيونية اليهودية والصهيونية المسيحية وتلك الاستعمارية
هذا المقال يعرفنا على أنماط الصهيونية وتعريفاتها وكيف تحولت إسرائيل إلى موقع أمامي في صراع استعماري جيوسياسي في قلب الشرق الأوسط.
تبدو كلمة "الصهيونية" في الخطاب العام وكأنها تعريف واحد، لكنها في الواقع تتشعب إلى تيارات مختلفة في المنطلقات والغايات ووسائل التبرير. ولأن الصراع في فلسطين ليس مجرد نزاع حدودي، بل صراع معنى وهوية وتاريخ ودين وذاكرة وأمن، فإن سوء استخدام المصطلحات يصبح جزءًا من المعركة السياسية ذاتها.
يمكن تمييز ثلاثة أنماط كبرى داخل المعسكر المؤيد للصهيونية:
الصهيونية اليهودية: حركة سياسية قومية حديثة (غالبًا علمانية في بداياتها)، هدفها إنشاء دولة لليهود في فلسطين، ثم الحفاظ عليها بوصفها "وطنًا قوميًّا" وأحيانًا بوصفها "دولة يهودية" ذات غلبة ديموغرافية يهودية.
الصهيونية المسيحية: تيار لاهوتي-سياسي، ارتبط تاريخيًا بالإنجيلية الاستعادية الأصولية، يدعم عودة اليهود إلى فلسطين لا باعتبارها "عدالة تاريخية" فحسب، بل بوصفها علامة نبوئية تمهّد لسيناريو نهاية الأزمنة حيث لا ينجو اليهود كيهود في النهاية، بل يُتوقع تنصيرهم أو فناؤهم في معركة كونية.
الصهيونية غير اليهودية (السياسية الاستعمارية/ الإستراتيجية): هي توجه علماني غربي يعتبر إسرائيل قاعدة متقدمة للحفاظ على مصالح الغرب في الشرق الأوسط، أو "حاملة طائرات ثابتة"، أو "خط دفاع أمامي" ضد بيئات يُنظر إليها كمعادية لـلقيم الغربية.
تكمن خطورة الخلط بين هذه التيارات في أن الخطاب الدعائي كثيرًا ما يقدّم الدعم لإسرائيل بوصفه دفاعًا عن اليهود كيهود، بينما كثير من أشكال الدعم الحديثة، خصوصًا في بيئات إنجيلية متشددة، مؤسسة على تصور لاهوتي لا يفضي إلى نجاة اليهود بل إلى زوالهم كيهود. وهنا يبرز السؤال الذي تؤسس له هذه المقالة: هل يمكن أن يكون بعض "أشد المدافعين" عن إسرائيل، حاملين في عمق تصورهم رؤية معادية للسامية؟
بين اليهودية والصهيونية: فصل ضروري قبل أي نقاش
من الضروري فصل مفهوم اليهودية عن مفهوم الصهيونية لتجنب الالتباس الذي يُستثمر سياسيًا.
اليهودية ديانة توحيدية عريقة، تتضمن منظومة إيمانية وشعائرية وتشريعية وتاريخًا دينيًا طويلًا. واليهود بوصفهم جماعة بشرية ليسوا وحدة واحدة متجانسة؛ فهم موزعون إثنيًا وثقافيًا ولغويًا، وفيهم المتدين والعلماني، واليساري واليميني، والمعارض لإسرائيل والمؤيد لها.
أما الصهيونية فهي حركة سياسية قومية حديثة نشأت في سياق أوروبا القرن التاسع عشر، ضمن مناخ القوميات الصاعدة، ومعاداة السامية الأوروبية، وأزمات الاندماج. فصهيون في الخيال الديني اليهودي عنوان رمزي–لاهوتي، لكن تحويل الرمز إلى برنامج دولة حديثة هو فعل سياسي بالدرجة الأولى.
ليس كل يهودي صهيونيًا، كما أن ليس كل صهيوني يهوديًا. بل إن من الحقائق المفارِقة أن كثيرًا من أكثر المدافعين حماسة عن إسرائيل اليوم هم من غير اليهود، وخصوصاً داخل تيارات إنجيلية أميركية وأوروبية. هذا التمييز ليس ترفًا مفاهيميًا إنه شرط أخلاقي لمنع أمرين خطيرين هما تحويل اليهودية إلى هوية سياسية قسرية تلزم اليهود جميعًا بمواقف دولة بعينها. وتجريم النقد السياسي للاستعمار الاستيطاني بوصفه كراهية دينية.
وبكلمات أخرى فإن نقد الصهيونية ليس بالضرورة معاداة للسامية، كما أن استدعاء تهمة معاداة السامية لا يلغي الحق في نقد سياسات دولة.
"مأساة المنصور" لهاينه: ذاكرة أوروبية لا تزال قائمة
في أوبرنبلاتز ببرلين، حيث أُحرقت الكتب عام 1933، نُقشت عبارة هاينه الشهيرة:
"حيثما يحرقون الكتب، سيحرقون البشر في نهاية المطاف".
لا تهمنا العبارة فقط كنبؤة أخلاقية، بل ككشف عن بنية ثقافية هي أن العنف يبدأ بتطهير الرموز والمعنى واللغة، ثم ينتهي بتطهير البشر.هاينه، اليهودي بالولادة الذي عاش مرارة "وباء المعمودية" (التنصير الطقوسي كشرط للترقي الاجتماعي)، فهم مبكرًا أن أوروبا "المستنيرة" يمكن أن تعود بسهولة إلى عنفها القديم. وفي نصوصه التي تُحذّر من انهيار التعويذة المسيحية وعودة الآلهة الجرمانية الغاضبة، نلمح رؤية مفادها أن الحضارة ليست ضمانة ضد الهمجية، وأن التقدم لا يمنع الانحدار.
هذه الخلفية مهمة لأنها تفسر دافعًا مركزيًا للصهيونية اليهودية المبكرة. هذا الدافع هو الخوف من أوروبا، واعتبارها غير قابلة للإصلاح جذريًا فيما يتعلق باليهود.لكنها في الوقت نفسه تفتح سؤالًا أكثر إحراجًا: إذا كانت أوروبا هي منشأ الاضطهاد، فكيف يصبح الحل مشروعًا في فلسطين على حساب شعب آخر؟ وهل يتحول الضحية حين يمتلك القوة إلى طاغية ينتج نظام إقصاء جديد؟
الصهيونية اليهودية: من "الملاذ" إلى الدولة–الحصن
ظهرت الصهيونية اليهودية في أواخر القرن التاسع عشر متأثرة بعوامل عدة: تصاعد القوميات الأوروبية، الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، ومعاداة السامية بأشكالها الحديثة والقديمة، وصدمة اندماج فشل في حماية اليهود. وقد لعبت قضايا مثل قضية الضابط اليهودي الفرنسي "دريفوس" دورًا رمزيًا بالقول إنه "إذا كانت فرنسا، مهد التنوير، تتسع لهذه الكراهية، فما الذي يضمن بقية أوروبا؟" لكن إقامة "ملاذ آمن" عبر مشروع استيطاني في أرض مأهولة فتحت التناقض الأخلاقي المركزي، وهو أن الأمان لليهود جرى هندسته كأمن عبر نزع أمن الآخرين.
وقد عبّر عن هذا التناقض مبكرًا أشخاص من اتجاهات مختلفة: فلسطينيون مثل يوسف الخالدي فهموا منطق الحاجة اليهودية للملاذ، لكنهم قالوا إن فلسطين ليست مساحة فارغة، ومفكرون يهود مثل آحاد هعام انتبهوا إلى التكلفة الإنسانية للاستيطان الفعلي، ودعوا إلى "عودة يهودية ثقافية" لا إلى دولة تقوم على اقتلاع السكان.
ثم جاءت اللحظة الاستعمارية الحاسمة: وعد بلفور بوصفه صيغة رسمية تضع "المشروع" في سياق مصالح إمبراطورية، وتتعامل مع السكان الأصليين بوصفهم مجرد هامش تاريخي. ليس هنا فقط خلل أخلاقي، بل تأسيس لمنطق طويل: أن إرادة القوة الدولية أعلى من إرادة من يعيشون على الأرض.
وهنا، حين تصبح الدولة "يهودية" بمعنى الغلبة الديموغرافية، يتحول غير اليهود إلى مشكلة بنيوية، لا إلى مواطنين متساوين. هكذا يصبح الصراع ليس على سياسة عابرة، بل على تعريف الدولة ذاتها. ولذلك تتولد دينامية لا تنتهي مبنية على التوسع، ضبط السكان المحليين، إدارة الخوف، واستدعاء سردية "التهديد الوجودي" لتبرير العنف.
بالعودة إلى مسالة النازية، يتفق مؤرخون كثيرون على أن تفاصيل "الحل النهائي" لم تُكتب صراحة في بدايات المشروع النازي، لكن مناخ الإقصاء كان واضحًا: الهدف إزالة اليهود من المجال العام، ثم من أوروبا، ثم من الحياة. هنا لا نعيد سرد التاريخ لذاته، بل لنضيء مفارقة سياسية وأخلاقية تؤكد أن هناك "حل نهائي" إبادي صنعته أوروبا المسيحية–القومية في القرن العشرين. وهناك "حل نهائي" آخر يتسلل عبر لاهوت الصهيونية المسيحية بعودة اليهود شرط لنهاية الأزمنة، حيث ينتهي اليهود كيهود إما بالقتل أو بالتنصير. فإذا كان هذا صحيحًا، فإن الصهيونية المسيحية ليست مجرد "تحالف سياسي" مع إسرائيل، بل هي في جوهرها صيغة جديدة من "حل نهائي" لاهوتي، مغلف بدعم سياسي، لكنه يحمل تصورًا لا مكان فيه لليهودية نفسها بوصفها دينًا قائمًا بذاته في نهاية المشهد.
الصهيونية المسيحية
تنتمي الصهيونية المسيحية غالبًا إلى تقليد تفسيري يرى التاريخ سلسلة "تدابير" إلهية منفصلة، ويفصل بين الكنيسة وإسرائيل، ويقرأ العهد القديم بوصفه مخططًا سياسيًا–جغرافيًا يجب أن يتحقق حرفيًا. في هذا الإطار تصبح فلسطين ليست أرض شعب يعيش عليها، بل "نصًا مقدسًا" يجب أن يُترجم إلى جغرافيا بالقوة.
يُستدعى في الصهيونية المسيحية عادة: وعود إبراهيم في التكوين 12 و15 و17، نبوات "جمع المنفيين" في حزقيال 36–37، مقاطع في إشعياء تُقرأ كعودة حتمية، ورومية 11 لتثبيت فكرة دور اليهود في الخلاص، ثم تتوج هذه الشبكة بسردية سفر الرؤيا حول المعركة الأخيرة في "حر مجدو" أو "أرمغيدون". لكن الإشكال ليس في وجود نصوص دينية، بل في طريقة قراءة حرفية تجعل الرمز الغامض مشروع دولة، وتجعل الدولة أداة لنهاية العالم.
هنا تتجلى المفارقة الأخلاقية التي تحاول المقالة تسميتها بوضوح، وهي أن يدّعي الصهيوني المسيحي أنه يحب اليهود ويدعمهم، ومع ذلك يتبنى سردية نهائية لا تمنح اليهود مكانًا كيهود في الخاتمة، محولًا معاناة اليهود التاريخية إلى وظيفة ضمن مخطط خلاص مسيحي. بهذا المعنى، تصبح الصهيونية المسيحية صورة مموهة من معاداة السامية. هي ليست كراهية فجة بالضرورة، بل "توظيف" لليهود في خطة لا تقبل اليهودية بوصفها استمرارًا مشروعًا.
الأسطورة كحل للتناقض
حين يصبح الواقع السياسي عنيدًا ومقاومًا (شعب موجود، حقوق، قانون دولي، تناقضات أخلاقية)، يلجأ هذا اللاهوت إلى حل خارق بأن الله سيتدخل في النهاية. وهكذا تُعلّق السياسة على الماورائيات ويُجرَّد الفلسطيني من إنسانيته مرتين:مرة كعائق أمام وعد إلهي مزعوم، ومرة كوقود لمعركة نهاية العالم.
فمنذ بدايات القرن العشرين، لم تكن العلاقة بين الحركة الصهيونية وبعض القوى المعادية لليهود مجرد صدفة. كانت هناك لحظات سعت فيها جماعات صهيونية متطرفة إلى صفقات مع قوى فاشية أو نازية، لا حبًا بالنازية، بل لأن معيارها كان دائمًا: ما الذي يخدم المشروع الآن؟ هذا لا يعني مساواة تاريخية بين الصهيونية والنازية، لكنه يعني شيئًا محددًا وهو أن السلطة السياسية قادرة على توظيف أي طرف إذا خدم غاياتها، حتى لو كان طرفًا يحمل كراهية جوهرية لليهود. وهذا يفسر لاحقًا لماذا تبدو بعض المؤسسات الإسرائيلية قادرة على غض الطرف عن معاداة سامية في الغرب حين تأتي مغلفة بدعم لإسرائيل.
من هنا يمكن فهم العلاقة بين إسرائيل والصهيونية المسيحية كتحالف سياسي لا يقوم على وحدة قيم، بل على تبادل منفعة. فالصهيوني المسيحي يريد تحقق النبوءة وتهيئة المسرح لنهاية العالم بعودة المسيح. أما صانع القرار الإسرائيلي فيريد نفوذًا وضغطًا على السياسة الأميركية وأموالًا ودعمًا إعلاميًا.لكن هذا التحالف محكوم بالنفاق فإسرائيل تستعمل جمهورًا يؤمن في العمق بنهاية لا تبقي اليهود كيهود، والجمهور الإنجيلي يستعمل إسرائيل بوصفها أداة لاهوتية. وهنا تتجلى خطورة مزدوجة تكمن في تحويل السياسة الخارجية الأميركية إلى تابع لنصوص مقدسة تُقرأ حرفيًا وتحويل أمن اليهود إلى وظيفة داخل صراع كوني يُراد له أن ينفجر.
إسرائيل أداة إستراتيجية غربية
هناك تيار ثالث، لا يحتاج إلى سفر الرؤيا ولا إلى التكوين، لأنه علماني، لكنه لا يقل خطورة وهو التيار الذي يرى في إسرائيل أداة إستراتيجية غربية. هذا المنطق يعود إلى مشاريع مبكرة (نابليون، مشاريع استعمارية أخرى) وإلى لحظة وعد بلفور وما تلاها من إعادة رسم خرائط المنطقة. هذه الصهيونية "غير اليهودية" لا تهتم بسلام اليهود لذاته، بل ترى إسرائيل موقعًا عسكريًا وشريكًا استخباراتيًا ومختبرًا للتقنيات من مراقبة وأمن وعتاد… ونقطة ارتكاز لنفوذ دائم في منطقة مواردها حيوية.
في هذا السياق، يصبح اليهود، مرة أخرى، أداة ضمن مشروع أكبر، لا غاية إنسانية في ذاتها.
صحيح أن الهولوكوست مأساة إنسانية كبرى لا يجوز إنكارها أو تبريرها، لكن هذا لا يمنع أن القوى المنتصرة وظفتها لاحقًا في صراعات الشرعية. الأشد إيلامًا في التاريخ أن الغرب لم يكن دائمًا مستعدًا لاستقبال اللاجئين اليهود، كثيرون عُرقلوا وتركوا في أرض التيه بعد الحرب. وهنا يولد سؤال أخلاقي مريب، فإذا كان الغرب يزعم أنه يكفّر عن ذنبه تجاه اليهود، لماذا لا يكون التكفير في الغرب نفسه، حيث توجد مؤسسات وقانون وحماية، بدل أن يكون التكفير على حساب شعب آخر؟
لمن لا يعرف فإنه لم تصبح العلاقة الأميركية–الإسرائيلية في صيغتها الحالية إلا بعد حرب 1967، حين برزت إسرائيل كحليف عسكري جذاب في لحظة انشغال أميركي (فيتنام) وقلق من نفوذ سوفياتي. ثم تطورت العلاقة إلى سلاح، تمويل، تعاون تقني، استخبارات، وتبادل خبرات في مجالات المراقبة والأمن.
لكن هذه العلاقة لا تُقرأ فقط بمنطق المصالح، بل إنها تُغذى أيضًا بمنطق أسطوري داخلي في المجتمع الأميركي، حيث يرى بعض الأميركيين بلدهم "صهيون الجديدة"، وتاريخهم امتدادًا لروايات مقدسة. هنا يلتقي السياسي باللاهوتي، وتصبح إسرائيل جزءًا من هوية أميركية دينية عند قطاعات واسعة.
أي انتقاد لإسرائيل يعني معاداة السامية
لكن من أخطر ما حدث في العقود الأخيرة هو انتشار معادلة دعائية بسيطة، روجت لها وسائل الدعاية الأميركية الممولة من صهاينة يهود وإنجيليين وعلمانيين جعلت من أي نقد لإسرائيل يعني معاداة السامية. هذه المعادلة تخدم ثلاثة أغراض هي إسكات أي تضامن مع الفلسطينيين وعزل اليهود الناقدين للصهيونية أو لسياسات إسرائيل داخل مجتمعاتهم، ومن ثم حماية الاستعمار الاستيطاني من المساءلة الأخلاقية والقانونية.
المفارقة أن هذا يحدث في مجتمعات كانت تاريخيًا، وبحسب ذاكرة هاينه وأوروبا الشرقية والغربية، أكثر البيئات إنتاجًا لمعاداة السامية. وهنا يصبح اتهام آخرين بمعاداة السامية وسيلة لتبييض تاريخ أوروبا نفسها، عبر نقل مركز الذنب إلى المسلم/العربي، وكأن معاداة السامية لم تكن أوروبية مسيحية في جذورها الاجتماعية والسياسية.
فمنذ 1967 تعاظمت حماسة إنجيلية لقراءة السيطرة على القدس بوصفها تحققًا للنبوءة. وهنا ظهرت فكرة "الهيكل الثالث"، ما يعني ضمنيًا تهديدًا مباشرًا للمسجد الأقصى وقبة الصخرة. هذا ليس تفصيلًا هامشيًا بل إنه وصفة لحرب كبرى إذا انتقلت هذه الأفكار من الهامش إلى القرار. وهنا تتلاقى التطرفات الدينية المختلفة، حتى إن لم تتحالف تنظيميًا، من جماعات يهودية متطرفة تريد تغيير الوضع القائم في الحرم القدسي، إلى تيارات إنجيلية ترى في ذلك تسريعًا لعودة المسيح.
والنتيجة هي ضغط دائم نحو حافة الهاوية.
نقل المسألة اليهودية من أوروبا إلى الشرق الأوسط
بالمحصلة، فإن الفرضية التاريخية للصهيونية تقول أن دولة يهودية بأغلبية يهودية ستحمي اليهود من اضطهاد الأغلبية. لكن النتيجة، في الواقع السياسي، يمكن صياغتها كالتالي بأن جرى نقل "المسألة اليهودية" من أوروبا إلى الشرق الأوسط، لا حلّها. وجرى إنتاج صراع دائم لأن الدولة اليهودية قامت في أرض مأهولة، مع مشروع غلبة ديموغرافية. وجرى تأسيس أمن قائم على القوة والعقاب الجماعي والحصار وتفكيك مجتمع آخر، ما يولد مقاومة مستمرة.
هنا تحولت إسرائيل إلى "موقع أمامي" في صراع استعماري جيوسياسي، ما يجعل اليهود داخلها جزءًا من معادلات أكبر من قدرتهم على التحكم بها. في ظل كل ذلك، يصبح "الأمان" وعدًا مؤجلًا لا يتحقق، ويصبح الخوف بنية دائمة، لا حالة عابرة. فإذا كان الهدف الحقيقي من دعم إسرائيل هو التكفير عن تاريخ الاضطهاد ضد اليهود، فإن المكان الأكثر منطقية لأمان اليهود هو المجتمعات الديمقراطية التي تستطيع قانونيًا وأخلاقيًا حماية الأقليات، لا دولة محاصرة بالصراع، تُدار بالمنطق الأمني المتوتر، وتُستخدم في مشاريع دولية متشابكة. والأخطر أن بعض أقوى الداعمين لإسرائيل اليوم، خصوصًا الصهيونية المسيحية، لا يقدمون دعمًا نقيًا، بل دعمًا مشروطًا بنهاية لا مكان فيها لليهودية.بهذا المعنى، فإن "الأصدقاء" قد يكونون في العمق، أصحاب مشروع آخر، يستخدم اليهود لا لحمايتهم، بل لاستكمال سرديته.
المصدر: مصطفى علوش/ المدن
2025-12-25 || 17:34