باسم خندقجي من القاهرة: كنتُ أحكي لأحيا وكلماتي تحرّرتْ قبلي
الروائي الفلسطيني ابن مدينة نابلس باسم خندقجي يلتقي جمهوره المصري بعد سنوات من الأسر، محولاً تجربته في السجن إلى "أدب الاشتباك"، ومؤكداً قدرة الأدب الفلسطيني على مواجهة الاستعمار واستعادة الإنسانية.
اعتبر الروائي الفلسطيني والأسير المحرّر باسم خندقجي لقاءه بالجمهور المصري بالأمس لحظة انتصار حقيقية، بل ربما لحظة ولادة جديدة. فالمرة الأخيرة التي وقف فيها أمام مثل هذه الأعداد كانت قبل اثنين وعشرين عاماً. تخيل باسم هذه اللحظة وانتظرها طويلاً، بعد أن كان الحاضر الغائب في الندوات التي ناقشت أعماله بينما كان هو أسيراً في زنازين الاحتلال الإسرائيلي. واليوم يلتقي بجمهوره للمرة الأولى بعد تحرره من الأسر، قال للحضور الذي احتشد للقائه في مكتبة تنمية: "وجودي بينكم انتصار، اليوم لا أُعبّر عن نفسي فقط، بل عن حالة أدبية فلسطينية جديدة هي «أدب الاشتباك»؛ كيف نكتب أدباً ضد استعماري داخل السياق الاستعماري، وكيف نهزم السردية الصهيونية، ونبلور خطابنا الأخلاقي الفلسطيني والعربي عموماً".
فن البقاء
أدار اللقاء الكاتب محمود بركة، وتحدثتْ فيه الدكتورة شيرين أبو النجا مؤكدة أننا كثيراً ما نتحدث عن الصمود وندرسه ونقرأ عنه، لكن مقابلة "نموذج حي للصمود" تمنح المفهوم معنى مختلفاً تماماً. قالت إن باسم خندقجي أتقن فن البقاء على قيد الحياة بوسائل متعددة، من بينها الكتابة، وبذلك يهدي إلينا اليوم معنى منسياً لدور الأدب على مستويات تتجاوز التنظير المجرّد أو السرد المباشر لوقائع السجن وأساليبه، بل تمتد إلى فضاء كامل من الأسئلة. قالت إن باسم كتب من خلف القضبان نصاً يتحدى به القضبان نفسها؛ فـ"قناع بلون السماء" ليست رواية عن السجن بقدر ما هي رواية تُسائِل كل ما يمكن أن يخرجنا من السجن أو يقودنا إليه. يحول باسم فكرة السجن - ذلك الحيز المادي المغلق، الضيق، والخانق- إلى فضاء رحب من الأسئلة: من نحن؟ كيف نفهم ذواتنا؟ كيف نتعامل مع الآخر؟ وما معنى أن نحيا بحرية؟
تقرأ أبو النجا رواية "قناع بلون السماء" بوصفها نموذجاً استثنائياً لما يمكن أن نسميه التفكير الفلسفي النقدي من داخل السجن. فالكتابة في السجن تتحول من فعل مقاومة إلى لحظة تأملية في ماهية الحرية: ما معنى أن تكتب وأنت مقيّد الحركة ومحروم من العالم؟ كيف تصنع عالماً من الخيال والمقاومة وأنت محاصر داخل حيز ضيق؟ بهذا المعنى، تنتمي الرواية إلى تراث أدب السجون الفلسطيني الذي لا يكتفي بالتوثيق، بل ينتج معرفة استثنائية نابعة من التجربة الحسية للقهر.
تضيف أن خندقجي يتجاوز السرد التقليدي لما يحدث داخل السجن، رغم أن التجربة تستحق أن تُروى. فهو لا يكتب عن السجن كحيز مادي فقط، بل كحالة أنطولوجية يعيشها الإنسان في العصر الحديث؛ سواء تمثّلت في سجن استعماري أو قناع اجتماعي أو هوية مفروضة. لذلك تتقاطع الرواية مع أسئلة ما بعد الاستعمار-رغم بقائنا داخل سياق استعماري-ومع أسئلة علاقة المعرفة بالقوة، وصورة الذات والآخر. وبذلك تصبح كتابة ضد استعمارية داخل سياق استعماري، وتعيد تعريف الكتابة الفلسطينية بوصفها كتابة للوجود والصمود، لا مجرد شهادة سياسية أو توثيق لما وقع.
وترى أبو النجا أن النص يقف على تخوم التماس بين الماضي والحاضر، ويطرح قضايا الفلسفة والتاريخ، الذات والآخر، اللغة كسلاح رمزي، والسماء المفتوحة كأفق كوني. وتتحول الرواية إلى شكل من أشكال الاحتجاج الواضح ضد المحو والنسيان، مذكرة بأننا لا ننال حريتنا بمجرد الهروب من القيد أو الخروج من السجن، بل بفهمنا للقيد نفسه وإعادة تعريفه. وهي القضايا التي ناقشتها بالتفصيل مع صاحب الرواية خلال اللقاء.
من داخل السجن
قال باسم إن السجن يتحول، في اللحظة التي يقرر فيها الأسير أن يكتب، إلى منصة يطل منها على العالم-إذا اختار ألا يكتب عن السجن ذاته. فبرأيه ثمة فارق جوهري في أدب السجون بين الكتابة عن السجن والكتابة من داخل السجن. يقول: "قررتُ أن أكتب من داخل السجن، وألا أنخرط في أدب السجون التقليدي، لأنه تم تمثيله في مستويات عديدة". بهذا المعنى تصبح الكتابة فعلاً وجودياً، وفعل تحرر ومقاومة، والأهم من ذلك فعل استعادة الإنسانية. فالعلاقة بين السجان والسجين تكون منذ اللحظة الأولى علاقة لا أخلاقية، ملتبسة، وإشكالية، يسعى فيها السجان إلى محو إنسانية الأسير. وقد اكتشف داخل المعتقل أن الفعل الحقيقي الذي يستطيع ممارسته هو استعادة إنسانيته عبر الكلمات. وهكذا أصبحت الكتابة درعاً يحميه من هجمات السجان: "وعندما أقول السجان فأنا أقصد المؤسسة السياسية والأمنية الصهيونية بكل أدواتها، وممارساتها في القتل المبتكر والإقصاء والتحييد. والدور الملقى على عاتقي، في هذه الحالة، هو استعادة إنسانيتي من جهة، والمقاومة من جهة أخرى".
الكاتب في السجن ليس كالكاتب خارجه، فالكتابة داخل المعتقل "سرية وخطرة، وكل كلمة تصبح ذات قيمة خاصة".. وعلى المستوى الشخصي، كان كلما كتب شعر بزوال السجن، وتحولت الحرية المشتهاة إلى كلمة مجازية وحاضرة في الوقت نفسه. كانت الكتابة فعل تحرر حقيقي، "لم أعد أشعر بأنني معتقل؛ كان عبء الحديد يزول ويتبدد كلما شرعت في الكتابة. وعندما كنت أشعر بأن كلماتي تصل إلى الخارج، كنت أنتصر على السجان. وأستطيع الآن القول إنني نجحت فعلاً في ذلك، لأنه لم يتمكن من مصادرة كلمة واحدة. لقد حرّرتُ جميع كلماتي من السجن، وكلماتي تحرّرت قبلي".
قناع
يعتبر باسم القناع الذي استخدمه داخل النص تقنية سردية من جهة، وأداة معرفية من جهة أخرى. يقول إنه تأثر في هذا الجانب بقراءات فرانس فانون، فتعامله مع القناع، إلى جانب اكتسابه للغة العبرية، كان أشبه بغنيمة حرب، معرفة تكتسب "من فم الذئب"، كما قال كاتب ياسين. لم يكن استخدام القناع مصادفة برأيه؛ فهو يكتسب معاني وتأويلات متعددة، لكن ارتداء نور بطل الرواية للقناع لم يكن مريحاً، ولم يكن متصالحاً معه. يقول إن ارتداء القناع يعكس الالتباس في الحالة السياسية والثقافية الفلسطينية، "ما زلنا نعاني من تشويه هذه الحالة. فقد ارتدى نور القناع وحاول الدخول إلى المنظومة المعرفية الصهيونية ليكشف بعض الجوانب الغائبة عن الفلسطيني، فالأدب الفلسطيني والعربي عموماً يقدّم صورة الصهيوني مشوهة ونمطية، لا تركّز على المناحي الإنسانية".
يفسر: نحن كفلسطينيين لم نولد ولادة طبيعية؛ ولدنا في زمن النكبة الاستيطانية. هي الكينونة الكولونيالية التي ولدنا منها مشوهين، ولا نمارس الحياة الطبيعية. الطفل الفلسطيني لا يحلم بأحلامه، بل بأسرى في سجون الاستيطان، لذا فهو ليس طفلاً طبيعياً؛ لأنه ولد من رحم الاستيطان. معادلة الكينونة الكولونيالية تقوم على علاقة بين المستوطن القاهر والمستوطن المقهور. كيف يحطم الفلسطيني هذه المعادلة؟ من خلال المقاومة الشاملة، التي أراها ثقافية وأخلاقية بالدرجة الأولى، فهي الطريق لاستعادة إنسانيته.
كان باسم يخشى من أن يتعاطف بطله مع قناعه، وهناك من وقع بالفعل في أسر المنظومة المعرفية الصهيونية، بتقليدها واعتماد ما يعرف بـ"الحياد الأكاديمي". هذا الاستعمار قائم برأيه على التفاصيل الصغيرة، وعلى مجموعة من المفاهيم والكلمات، وصراعنا معه جزء منه صراع لغوي، تلك اللغة المحمَّلة دوماً بالدمار والغضب.
اللغة
يستفيض باسم في مسألة اللغة، ويقول إن الفلسطيني مطالب بإتقان اللغة العبرية، والتي تصبح، كغنيمة حرب، وهذا في الوقت نفسه يؤذي الآخر الصهيوني، "لأنك بذلك تخترق أعماقه". فاللغة العبرية الحديثة كما يراها هي لغة صهيونية بامتياز، مليئة بالعنف والقتل، حتى المفاهيم اليومية المرتبطة بها تحمل بعداً عنيفاً. وبشكل شخصي، كان إتقان العبرية أحد محددات الصمود داخل المعتقل بالنسبة له، لم يتقنها لحبها، بل باعتبارها وسيلة. فعندما يدرك السجان أن السجين يفهم العبرية، كان يقلق ويرتبك. الهدف من استخدامها هو اختراق التيار المعرفي الصهيوني. "ومن هنا، فإن استخدام اللغة داخل النص يصبح استخداماً معرفياً نقدياً، يمكنني من خلاله التعرف على أنماط وأبعاد أخرى في الثقافة الصهيونية، بعيدة عن الصورة النمطية التي اعتدنا عليها".
أدب الاشتباك
يعود باسم لمصطلح "أدب الاشتباك" الذي بدأ به حديثه، ويقول إنه يختلف عن أدب المقاومة الذي صاغه غسان كنفاني، وإن كان يستند إليه في بعض الجوانب. أدب الاشتباك حسب تعريفه هو كتابة ضد استعمارية تُنتج داخل السياق الاستعماري نفسه، كتابة تهدف إلى تحطيم المعادلة الهيغلية بين السيد والعبد، وكشف البُنى الحقيقية للمعرفة الصهيونية. وهذا يتطلب الدخول في عمق هذه المعرفة، والاشتباك معها، واختراقها بأدوات نقدية واعية.
هو أدب كوني في أحد معانيه، لا يقوم على صيغ قومية متطرفة ولا على خطاب عنصري. ويتيح مساحة للرؤية النسوية أيضاً، لأنه يسعى في المجمل إلى كشف الأبعاد الداخلية للمجتمع الصهيوني، بعيداً عن الصورة العسكرية والأمنية التي هيمنت طويلاً على التمثيل العربي لهذا الآخر. فبرأيه لم ينتج الأدب العربي إلا تمثيلات قليلة تناولت الشخصية الصهيونية في أبعادها الإنسانية العادية، وكان الراحل غسان كنفاني أول من فعل ذلك في "عائد إلى حيفا". والمقصود هنا ليس التطبيع كما يعود ليؤكد، بل أنسنة الآخر كي نتمكن من هزيمته؛ فهو ليس عصيا على الهزيمة. "للأسف، أسهم الخطاب الإعلامي والأدبي العربي تاريخياً في تضخيم صورة الصهيوني، وتعامل معه بوصفه غولاً ووحشاً ومصاص دماء. هو كذلك، لكنه قابل للهزيمة، وأدب الاشتباك يسلط الضوء على هذه الحقيقة".
يضيف أن رواية المقهور، بطبيعتها، رواية إنسانية؛ لا يمكن أن تحمل خطاباً عنصرياً. ولذلك، فالفلسطيني اليوم يواجه العدوان الصهيوني بالصمود والمقاومة، لكنه يواجهه أيضاً بسرديته. "نحن مطالبون اليوم بإعادة بلورة هذه السردية، بحيث نطل منها على العالم، ونقول بوضوح: هناك شعب فلسطيني لا يستحق الحياة فقط، بل يسعى أيضاً إلى استعادة إنسانيته".
أما حملات التحريض ضده، والإصرار على وصفه بالمخرّب أو الإرهابي، فهو لا يراها إلا دليلا على فاعلية ما يكتبه.. "إن كان هذا يؤذيهم فأنا فخور به" وهم في رأيه لا يفعلون ذلك إلا لأنهم يدركون خطورة السردية وخطورة الثقافة. فالحركة الصهيونية في نظره تأسست على سردية معينة وثقافة مُمنهجة: "لكن الفارق بيننا وبينهم أنني لست بصدد إعادة إنتاج خطاياهم، ولا استخدام الأساليب التي استخدموها ضدي. أنا أكتب كي أستعيد إنسانيتي، لا كي أسقط في فخ الانتقام والحقد، كما فعل من جاء من محرقته الأوروبية ليطفئها في فلسطين بجثثنا. أنا لست فاشياً، بل أحمل رؤية إنسانية، وهذا هو جوهر أدب الاشتباك: أن نقدم صورة حقيقية عنا كفلسطينيين وكعرب، وأن نبحث عن إمكانيات اتحاد إنساني كوني".
البوكر
أخيرًا قال باسم إن زيادة التنكيل كانت دليله الذي أكد له صعوده إلى القائمة القصيرة للبوكر ثم فوره بالجائزة بعد ذلك. قال إن بداية التنكيل جاءت مع إعلان القائمة القصيرة، وكانت الحرب في أوجها. اقتادوه إلى الزنازين الانفرادية واعتدوا عليه بالضرب، سحبوا منه الأقلام وحطموا نظارته الطبية قائلين: "يجب ألا ترى شيئاً". ثم بدأوا ينقلونه من سجن إلى آخر. وعندما وصل إلى السجن الجديد واقتيد إلى غرفة التحقيق، أدرك الحقيقة. فقد بدأ المحققون يسألونه عن كتاباته، وعما إذا كان يظن حقاً أن ما يكتبه يمكن أن يتحقق. عندها فقط فهم أن روايته قد فازت. ومع ذلك، لم ينظر إلى الأمر بوصفه فوزاً شخصياً، بل انتصاراً شعبياً. قال: "انتصرت لغزة وللسردية الفلسطينية". في تلك اللحظة تأكد من أن السردية هي السر، وأن المهم أن تُكتب الحكاية الفلسطينية الحقيقية.
وأضاف: "شهرزاد كانت تحكي كل يوم كي لا تموت، وهكذا كنت أفعل؛ أحكي لأحيا، ولأنقل قصة شعبي إلى العالم".
المصدر: أسامة فاروق/ المدن
2025-11-15 || 20:45