الميلاد في الإنتاج الفني على مر العصور
عيد الميلاد يمثل مناسبة روحية وإنسانية تجمع بين الإيمان، الفرح، والأمل، ملهمة الفنانين في تصوير مشاهد الميلاد بتنوع أساليبهم الثقافية والفنية.
يحتفل المسيحيون، كل عام، بعيد ميلاد يسوع المسيح، الذي يُعتبر حدثاً محورياً يُعرف بالتجسد، حيث صار الله إنساناً، وبحسب المعتقد المسيحي، بدافع محبته للبشرية ليخلصها، مُعلناً بذلك الانتقال من الظلام إلى النور، ومجيء المسيح المخلص. إنه احتفال بالفرح والأمل والعطاء، يتمحور حول المحبة الإلهية التي تجلّت من خلال الطفل المتواضع، داعياً المؤمنين إلى إعادة اكتشاف قربهم من الله، وأن يصبحوا حاملين لنوره.
أما بالنسبة للرسامين، فيُمثل عيد الميلاد مصدر إلهام ثري ومتجدد، بدءاً من ميلاد المسيح في الكتاب المقدس (ميلاد المسيح، النور، الأمل) وصولاً إلى مواضيع أكثر دنيوية (العائلة، التقاليد) مثل شجرة عيد الميلاد المُضاءة، مُستكشفاً الروحانية والإنسانية والفرح والألفة، وحتى التفسيرات الثقافية والغريبة، عاكساً التغيرات الاجتماعية والفنية عبر العصور.
ولطالما كان التاريخ الديني، على مرّ القرون، وخصوصاً تلك التي سبقت ظهور الفن الحديث، أحد مصادر الإلهام الفني الأكثر أهمية، لذا، ليس من المستغرب أن نجد مشاهدَ ميلاديةً مستوحاةً من الكتاب المقدس في لوحات كبار الفنانين. فعلى سبيل المثال، أصبح مشهدُ الميلاد، كما صوّره بوتيتشيلي أو بروغل، من الأعمال الكلاسيكية. وينطبق الأمر نفسه على جميع الصور الشعبية للقديس نيكولاس أو بابا نويل. ولكن ماذا عن التصويرات الحديثة لهذا العيد ورموزه العالمية؟ إذ أن ثمة أعمال حديثة تتحدى، على مستويات مختلفة، الصور الرمزية التقليدية لعيد الميلاد. وإذا يكون من الصعب الإحاطة بمجمل هذه الأعمال، وحتى بعدد كبير منها، فسنكتفي بذكر بعض الأمثلة ذات المكانة البارزة في التاريخ الفني المرتبط بهذه المناسبة.
من جيوتو إلى غوغان
لقد كانت حياة المسيح، كما ذكرنا، مصدر إلهام، سواء في الرسم أو النحت أو الموسيقى. وقد استلهمت حركات فنية مختلفة حوادث كتابية مؤثرة، تبعاً للعصر والأسلوب، ومن بين هذه الحوادث ميلاد المسيح، الذي تم تمثيله منذ القرن الثالث الميلادي. وبالرغم من وفرة الأعمال الفنية المكرّسة للمناسبة، فإن عمل الفنان الإيطالي جيوتو، (اسمه الكامل Giotto di Bondone) "ميلاد المسيح" (1303- 1305) ، الذي هو عبارة عن جارية (أفريسكو) في كنيسة سكروفيني في بادوا يمتلك قيمة مزدوجة. فعمل الفنان هو من أوائل الأعمال التي أنجزها جيوتو، في بدايات عصر النهضة الإيطالية، ضمن سلسلة من 53 لوحة جدارية تُصوّر قصة يسوع ومريم، بما فيها لوحة الميلاد هذه. يُصوّر جيوتو هذا المشهد ببساطة بالغة؛ إذ يخدم هذا التواضع في التمثيل غرضاً لاهوتياً، من وجهة نظره.
ميلاد بوتيتشيلي الفريد (1500- 1501)
يُصّر الباحثون على فرادة هذا العمل الفني لساندرو بوتيتشيلي، لما يتضمنه من مزايا خاصة بأسلوب الفنان. ثمة نقش يوناني أعلى اللوحة، ما يشير إلى أن الفنان كان أنجز عمله في أواخر القرن السادس عشر الميلادي، خلال حقبة مضطربة شهدت صراعات سياسية حادة في إيطاليا، وفي منتصف المدة الزمنية المذكورة في الإصحاح الحادي عشر من إنجيل يوحنا، في الجزء الثاني من "سفر الرؤيا". يُعدّ هذا الأمر دليلاً قيماً لفك رموز هذه اللوحة المعنونة "الميلاد الصوفي"، حيث يمتزج ميلاد المسيح مع ال Parousia (هو المصطلح اللاهوتي المسيحي الذي يشير إلى عودة يسوع المسيح المجيدة إلى الأرض في نهاية الزمان لإقامة ملكوت الله بشكل نهائي، ودينونة الأحياء والأموات، وتدشين عهد جديد من الحياة الأبدية). في أسفل اللوحة، تختفي خمسة شياطين صغيرة مهزومة في جحورها، ويحتضن ثلاثة ملائكة بشراً كعلامة على المصالحة.
هذه الإشارة إلى سفر الرؤيا مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بسافونارولا، الواعظ الدومينيكاني الذي حكم جمهورية فلورنسا من عام 1494 إلى 1498، وهو العام نفسه الذي أُعدم فيه شنقاً في ساحة عامة من المدينة بتهمة الهرطقة. كان بوتيتشيلي من أشدّ مؤيدي سافونارولا حماسةً، متخلياً بذلك عن إلهامه الأسطوري ليعود إلى المواضيع الدينية الممزوجة بعناصر عتيقة، مثل اللفائف أو صورة العذراء الضخمة بشكل غير متناسب في السماء. وتُعدّ دائرة الملائكة اقتباساً مباشراً من جوقة الملائكة السماوية التي علّقها فيليبو برونليسكي في عيد البشارة في كنيسة سان فيليتشي في ساحة بيازا، وقد رسمها بوتيتشيلي على أنها اثنا عشر، مثل شهور السنة وساعات اليوم، وفاءً لتعاليم سافونارولا.
وللسبب نفسه، منح بوتيتشيلي الملائكة الثلاثة في الأسفل ألوان الفضائل اللاهوتية الثلاث: الأبيض رمز الإيمان، والأحمر رمز المحبة، والأخضر رمز الأمل. تم ذلك في إيطاليا التي مزقتها حروب ملوك فرنسا، إذ أراد بوتيتشيلي أن يؤمن بسلام وشيك، فزين لوحته بأغصان الزيتون، أما رسم الصليب الموضوع على كاهل الحمار، في وسط اللوحة، فيمثل مفتاح فهمها.
"عيد ميلاد سعيد" لفيغو يوهانسن (1891)
تُعدّ لوحة "عيد ميلاد مجيد"، للفنان فيغو يوهانسن الذي رسمها عام 1891، مثالاً أيقونياً على فن الرسم الدنماركي في أواخر القرن التاسع عشر. هذا الرسام، المولود في كوبنهاغن في 3 يناير 1851 والمتوفى في 18 ديسمبر 1935، كان عضواً بارزاً في جماعة سكاغن للرسامين. في عمله المذكور يُقدّم يوهانسن لحظة حميمة من حياته العائلية، مُفعمة بسحر عيد الميلاد. فهو يمزج، من خلال التكوين، وفي شكل متناغم ما بين الروحانية والملذات البسيطة: دائرة من الأطفال، مُحاطة بشخصية أنثوية رشيقة تُرى من الخلف، بالإضافة إلى شخصية أخرى على اليسار، جميعهم يمسكون بأيدي بعضهم حول شجرة صنوبر مُضاءة. ينبعث ضوء فريد من شموع الشجرة، كرابط ثمين في قلب هذا السحر الليلي، كل ذلك بتقنية التباين بين النور والظلام. وقد أظهر فيغو يوهانسن ميلاً خاصاً لمشاهد الحياة اليومية، وخصوصاً إلى تلك الناحية العفوية التي قد نراها في احتفالاتنا المحلية في بلادنا. تُعدّ أعمال يوهانسن جزءًا من مجموعات العديد من المتاحف الفنية، بما في ذلك مجموعة هيرشسبرونغ في كوبنهاغن، ومتحف سكاغن في الدنمارك. وقد عرض يوهانسن أعماله على نطاق واسع ليس فقط في بلده الأم، بل أيضاً في الخارج، وحصل على العديد من الجوائز تقديرًا لإسهاماته البارزة في الفن الدنمارك.
ليلة عيد الميلاد لبول غوغان (1902- 1903)
يمثل غوغان الموضوع ضمن مشهد ثلجي بريتوني (نسبة إلى La Bretagne، وهي منطقة تقع في أقصى غرب فرنسا (، كما يُلمّح الفنان في العمل إلى عناصر من بلاد أخرى. فهو يتخيّل، بطريقة ما، عيد الميلاد الذي طالما حلم به؛ بل كان آخر عيد ميلاد في حياته، إذ وافته المنية بعد بضعة أشهر، في 8 مايو 1903.
في هذه اللوحة، ترتدي المرأتان أغطية رأس بريتونية تقليدية، لكن المثير للدهشة أن ملامحهما تُذكّر بالموضوعات البولينيزية، التي كانت عزيزة على قلب غوغان، وهو الذي قضى ردحاً من حياته في تلك الجزر بين القبائل المحليّة، وأنتج خلال إقامته هناك لوحات خالدة. يُشير الرسام في عمله إلى ثقافات مختلفة: على سبيل المثال، يستحضر تصوير الثورين زخارف من مصر القديمة، بينما تُشبه الشخصيتان على اليمين رموزاً من جزر المحيط الهادئ. لوحة مؤثرة تُحتفي بعيد الميلاد وتُبرز عبقرية بول غوغان. في الواقع، يُعدّ مزج الثقافات سمة بارزة في هذه اللوحة. فمع الملامح البولينيزية للمرأتين، وأغطية رأسهما البريتونية، والثورين اللذين يُذكّران بالصور المصرية، تُشكّل لوحة "ليلة عيد الميلاد" تكريماً رائعاً لتقاليد مختلفة من جميع أنحاء العالم ولعيد الميلاد كما يراه غوغان.
ولطالما مزجت نزعة غوغان الدينية، معقّدة الرموز، بين العناصر ضمن نهج توفيقي غريب يخرج عن إطار العقائد والحدود. يتلخص عيد الميلاد في عمل الفنان في شكل أساسي في لوحة رمزية، ليلة عيد الميلاد (مباركة الثيران)، التي رسمها في الفترة 1902-1903، والتي تدمج مشاهد بريتون الثلجية (أغطية الرأس، الثيران) مع لمسات بولينيزية (ملامح النساء، التماثيل)، مما يخلق عيد ميلاد حالم، لاواقعي، يمزج بين أسفاره وشغفه بالمحيط الهادئ في جو من الشفق الملون، وهو، في الواقع، خليط من الثقافات الغربية والإكزوتيك الآتي من وراء المحيطات.
الكاتب: محمد شرف/ المدن
2025-12-25 || 20:10