زيـاد خــداش: فستق قادم من الأربعينيات
تعرف على قصة بائع الفستق أبو أحمد النيجيري، التي يرويها الكاتب الفلسطيني زيـاد خــداش، والذي كان يبيع الفستق في سوق الدباغة بالقدس، وانتقل بعد النكبة إلى عمان.
كلما مررتُ من سوق الدباغة في القدس، أتذكر عمر محمد حمزة النيروبي المعروف بـ"أبو أحمد النيجيري" بائع الفستق (الفول) السوداني. في أربعينيات القرن الماضي، حضر الحاج أبو أحمد إلى القدس في رحلة دينية وبقي هنا.
لم أعش عصر الأربعينيات بالطبع لأعرف أبو أحمد معرفة شخصية لكني أعرف طعم فستقه الرهيب الساخن حين اشتريته من أبناء وأحفاد الحاج أحمد في زاويتهم الشهيرة في شارع الملك فيصل وسط عمان، مدخل سوق الذهب، أحمل نصف أوقية من الفستق الشهي وأقول لهم بينما أطحن بضع حبات ساخنات في فمي: الله يرحم الحاج أبو أحمد، فيبتسمون: تعيش.
"فستق أبوي سحر"
ثم يتابع الابن أحمد: (فستق أبوي سحر بخليك اتشوف العالم شعر وشعراء، يا أستاذ، خذلك نص كيلو على حسابي انثرهم في سوق الدباغة)، ظلت هذه الجملة ترن في داخلي، (فستق أبوي سحر)، ما الذي يقصده الابن بكلمة سحر؟ وما الذي يمكن أن يحدث لو نثرت الحبات في شوارع السوق المقدسي الشهير؟ أخذت النص كيلو الساخن الذي بذلت جهدا خارقا لأقنع نفسي أنني سأكون خائنا فيما لو ضعفت والتهمته في بيت صديقي الكاتب يحيى صافي قبل عودتي إلى فلسطين.
بعد النكبة جاء أبو أحمد إلى عمان
بعد النكبة، جاء أبو أحمد إلى عمان، وصارت بسطته أحد معالم عمان وصار هو أحد أهم شخصيات عمان الشعبية التي انتبهت لها الصحافة الأردنية وكتبت عنها، سأعود قليلا إلى الخلف، إلى أوائل الأربعينيات، وسأرى العم أبو أحمد يقف في زاويته الشهيرة قرب كنيسة الفادي، أمامه بسطة خشبية تفوح منها رائحة الفستق الشهي.
كلما ذهبت إلى عمان، أذهب من فوري إلى بسطة فستق أبو أحمد، صار أحمد يعرفني: شو أخبار القدس يا أستاذ، ويسألني: هل نثرت حبات الفستق في سوق الدباغة؟ أكذب عليه وأقول طبعا طبعا.
خجلت أن أقول له، إنني كلما تذكرت أن ثمة فستقا ساخنا في حقيبتي أتسلل في عتمة بيت صديقي الثقيلة، وألتهمها على مهل، وأسمع صوت يحيى: شو زياد شو بتوكل في نص الليالي؟
- ترمس بوكل ترمس، بدك؟ لا يا زلمة شو ترمس، مالك الساعة 3 الصبح ترمس؟
- قبل شهرين، قررت أن أفي بوعدي لأحمد، أخدت النص كيلو وغادرت فورا إلى فلسطين، بعد يوم واحد، كنت في سوق الدباغة بالقدس أقف، ناثرا حبات الفستق في كل مكان، بدءا من دخلة سوق الزيت وانتهاء بطلعة حارة النصارى الحادة التي تأخذنا إلى باب الخليل، ما حدث لا يمكن تصديقه وسيظن قرائي هنا أني أمارس لعبتي المفضلة في الكتابة وهي العودة إلى زمن فلسطيني سابق، لا، لا، ليست فنتازيا، لا يوجد عالم عجائبي هنا، رأيت إبراهيم طوقان مع شقيقته فدوى أمام بسطة الحاج أبو أحمد، كانا يتذوقان الفستق ويسألانه عن سر طعمه الرهيب.
- سأكتب قصيدة عن فستقك يا حاج أبو أحمد، قال إبراهيم، ابتسم الحاج وهو يصيح: يا الله ما اجمل حظي، في هذه اللحظة رأيت شخصا يقترب من الشاعر الشهير ويمازحه بوضع يده على رأسه، دققت النظر فإذا به الشاعر عبد الرحيم محمود، الآن تذكرت جملة أحمد: (فستق أبوي سحر يا أستاذ، بخليك اتشوف العالم شعر وشعراء)، مشت فدوى تجاه محل تحف، واستغرق الشاعران الصديقان في حوار هامس، لم أستطع تبيان خيط منه، ثم مشيا تجاه كنيسة القيامة، بعد أن لحقتهم فدوى.
- صارت لعبتي المفضلة فيما لو حننت إلى قدس الأربعينيات، لا أذهب إلى كتب التاريخ ومذكرات الكتاب والمفكرين، فقط، انطلق إلى عمان وشراء نصف كيلو من فستق أبو احمد ونثره في أنحاء سوق الدباغة. فتندلع أمامي الأحداث والشخصيات التي أحبها، والتي لا احبها.
- في المرة الأخيرة وكانت قبل أسبوع، عدت إلى سوق الدباغة حاملا الفستق في كيس ورقي بني، نثرت الكيس، وكانت مفاجأة غريبة: رأيت ثلة من جنود الاستعمار البريطاني يفرقون تظاهرة هناك بالعصي والرصاص، لمحت من بين المتظاهرين الشاعرين نوح إبراهيم وعبد الكريم الكرمي (أبو سلمى).
- كانا مصابين بالهراوات إصابة قوية في العين والسيقان، والدماء تنزف منهما، اقتربت منهما أحاول أن أبعدهما عن الحشود، والجنود، فإذا بهراوة قوية تهز كتفي هزا مرعبا، كان الألم شديدا، ابتعدت هاربا، وجدت نفسي بعد ساعة في مشفى رام الله أمام طبيب يعرفني: وين ضربوك اليهود على حاجز البالوع؟.
- مش اليهود إللي ضربوني دكتور؟ ومش في البالوع.
- ولا مين ووين؟
- الجنود البريطانيون وفي القدس وضربوا كمان الشاعرين عبد الكريم الكرمي ونوح إبراهيم.
- صفن الطبيب صفنة طويلة وهز رأسه مبتسما وواصل علاج كتفي دون أن يتكلم كلمة واحدة.
المصدر: زياد خداش
2024-04-25 || 10:33