قبل 15 عاماً كنا نمشي شرقاً لساعات بحثاً عن أزهار النرجس التي تتواجد على قمم جبال بيت فوريك البعيدة. نتسابق إليها ونقطف من كل بيتٍ ضلعاً، ونجمع القليل منها عائدين أدراجنا سعيدين برائحتها الزكية التي تستمر لبضعة أيام بعد أن نضعها في كوب ماء.
[caption id="attachment_1465" align="alignleft" width="368"]كبرنا وكبرت علينا تلك العادة وما عدنا نبحث عن النرجس. لم تغب تلك الذكريات عن بالي لتعود هذا العام عندما كنت أعمل في ورشة بناء غربي البلدة، وإذا بطفلين يجوبان المكان. استوقفني انهماكهما فيما يفعلان، ذهبت إليهما وإذا بهما غارقان بين مجموعة من أزهار النرجس التي نبتت تحت شجرة زيتون وعلى بعض الصخور.
لم يكن المشهد طبيعياً فبعد دقائق لم يتبق من الأزهار إلا ما استعصى على القلع، تحدثت مع الطفلين خالد ونزار عن سبب إصرارهما على قلع النرجسات من جذورها، فأجابا ببراءة الأطفال "لكي نزرعها في ساحة بيتنا".
انزعجت كثيراً وسألتهما: هل تعلمان بأن هذه الأزهار لن تنموا في العام المقبل؟ أجابا: لا بل ستزهر في حديقتنا. قلت وما الفائدة إذا كانت ستنقطع من الجبال؟ لم يكترثا وأكملا البحث، وعدت أنا إلى عملي.
لم أستطع إكمال العمل وعدت إليهما متسائلاً: هل ستعودان في الغد؟ أجابا نعم، قلت إذن سأحضر الكاميرا وألتقط لكما بعض الصور إن أحببتما، فوافقا، وطلبت منهما زهرة فقالا اقتلعها بنفسك، فقلت لا يمكن أن أفعل هذا لأنه غلط، فأعطاني نزار واحدة من زهراته.
[caption id="attachment_1466" align="alignright" width="316"]في اليوم التالي عادا وبصحبتهما "منتوش" ليساعدهما في الحفر. تجولنا في الجبل بحثاً عن الرنجس -كما نطلق عليه في قريتنا- فلم نجد، أخبرتهما بأني أعرف مكاناً فيه بعض الأزهار ولكن إن أرادا أن أدلهما عليه فيجب أن يكتفيا باقتلاع بيتين مع البصيلات. اتفقنا وقصدنا المكان وبشق الأنفس سمحت لهما باقتلاع أربع، وبهذا أصبح نصيب الواحد منهما عشرين زهرة في يومين.
قبل أن أفارقهما أخبرتهما أن اقتلاع النرجس بهذه الطريقة سيجعله يختفي في الأعوام القادمة، ونصحتهما بأن يقتلعا زهرة ويتركا واحدة في المكان نفسه للعام المقبل. فارقاني وأنا واثق بأنهما لم يقتنعا لإلحاحهما عليَّ بأن أسمح لهما باقتلاع زهرة أخرى.
خالد في العاشرة من عمره، ونزار في الثانية عشرة، طفلان في عمر الزهور أفنيا في يومين أربعين نرجسة. وكما هو الحال في المجازر هناك دائماً ناجٍ وحيد، فهل يا ترى ستصمد هذه الأزهار في الأعوام القادمة؟
[caption id="attachment_1469" align="aligncenter" width="451"]الكاتب: علي حنني