حصار اقتصادي على الضفة من شأنه تصعيد التوتر الأمني
تصاعد التوتر في الضفة وحرب أخرى ضد إيران ولبنان من شأنه أن يوفر لنتنياهو ذريعة لتأجيل الانتخابات. وتعهد ترامب للعرب بمنع ضم الضفة وخطته لوقف الحرب، بلا رصيد لأن "الأوضاع مستمرة دون تغيير حتى إشعار آخر".
إذا كان اعتراف الدول الغربية، وبينها الدول الأوروبية المركزية مثل بريطانيا وفرنسا، بالدولة الفلسطينية مفرحا بالنسبة لداعمي الفلسطينيين في أنحاء العالم، فإن قرار رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، بإغلاق معبر الكرامة (اللنبي)، ثم إعادة فتحه، الجمعة 26.09.2025، لعبور المسافرين فقط ومنع عبور البضائع، هو تنكيل بالفلسطينيين في الضفة الغربية وتهديد للاقتصاد الفلسطيني المتضرر أصلا.
لا يعني هذا التقليل من أهمية الاعتراف، إذ كان للتصريحات، وللقرارات أيضاً، أهمية في تاريخ القضية الفلسطينية، ولكن لمصلحة الحركة الصهيونية، مثل وعد بلفور في العام 1917 وقرار تقسيم فلسطين في العام 1947، والأهم من ذلك كان تمسّك الحركة الصهيونية بهما وحشد تأييد دولي لتطبيقهما.
الفرق بين الأمس واليوم، هو أن بلفور البريطاني وعد الحركة الصهيونية ببلاد ليست لها. فهذه حركة وُلدت من رحم الاستعمار في أوروبا، بينما الاعتراف بالدولة الفلسطينية، من جانب الدول الاستعمارية الأوروبية نفسها وخاصة بريطانيا، هو اعتراف بحق الفلسطينيين بدولة في أرضهم التي يسكنوها منذ قرون طويلة ولهم حق تاريخي فيها، ولا يستند إلى إرادة استعمارية أو أساطير توراتية لا أساس لها.
اعتراف الدول الغربية بالدولة الفلسطينية، إلى جانب اعتراف حوالي 140 دولة في العالم بالدولة الفلسطينية منذ سنين، لا يعني أن الدولة الفلسطينية ستُقام غداً. لكنه سيصبح هاماً جداً ومؤسِّساً إذا تم تطبيقه بإقامة الدولة بدعم كبير من جانب الدول الغربية التي اعترفت بالدولة، ومن خلال جهد فلسطيني يجب أن يكون غير مسبوق.
الاعتراف بفلسطين جاء في ظل حرب الإبادة المستمرة في قطاع غزة. ولا يعقل أن يُذبح الفلسطينيون كي يتحقق شيئاً في قضيتهم.
والحركة الصهيونية حققت وعد بلفور دون أن تسيل قطرة دم من يهودي في أنحاء العالم. الهولوكوست - وهي من أبشع المذابح في التاريخ وراح ضحيتها مجموعات بشرية متنوعة في أوروبا بينهم اليهود - حصلت بعد أكثر من عِقدين بدون علاقة مع هذا الوعد.
العالم يشهد في غزة منذ سنتين أبشع مذبحة في التاريخ الحديث. لكن مذبحة غزة مختلفة عن المذابح التي سبقتها. هذه المذبحة لا تتميز بقتل عشرات آلاف الغزيين من خلال إطلاق النار فقط، وإنما بالتجويع وسوء التغذية، بانتشار الأمراض والأوبئة، بتعمد منع إدخال البضائع وطعام الأطفال خصوصًا، ومنع الأمل بالمستقبل عن الغزيين. ودمرت إسرائيل في غزة كل شيء بُني فيها، هدم مطلق وتسوية بالأرض.
بعد سنتين على نشوبها، تصاعدت الحرب بادعاء القضاء على حماس، لكن القضاء على عشرات آلاف كثيرة من الغزيين المدنيين هو الحاصل وليس القضاء على حماس. رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، إيال زامير، قال لنتنياهو إن احتلال مدينة غزة لن يقضي على حماس، لا عسكرياً ولا سلطوياً. لم يقل زامير ذلك فحسب، بل اهتم بنشر أقواله هذه بشكل واسع في وسائل الإعلام الإسرائيلية.
حصار اقتصادي على الضفة
نتنياهو يرفض وقف الحرب وإنما يسعى إلى توسيعها. وقراره إغلاق معبر الكرامة، بدءاً من أول من أمس، الأربعاء، يعني أنه لن يكون للفلسطينيين في الضفة الغربية أي منفذ لخارج الضفة، إذ لا يمكنهم السفر أو العودة من معابر أخرى، برية أو جوية أو بحرية. وهم ممنوعون من الدخول إلى إسرائيل أيضاً. إغلاق معبر الكرامة يعني فرض حصار على الضفة.
تعمل لصالح نتنياهو منظومة موازية للمنظومة الإسرائيلية الرسمية، يسمونها "آلة السم". وهي منظومة دعائية لخدمة أهداف نتنياهو وتروج لمعلومات كاذبة، وتستخدم للتحريض ضد خصومه السياسيين، وضد قادة أجهزة الأمن والقضاء أيضاً، في الشبكات الاجتماعية ومنصات إخبارية ومن خلال صحافيين في القنوات الإسرائيلية.
في الماضي، كان سيرافق قراراً مثل إغلاق معبر الكرامة وفرض حصار على الضفة، تقارير حول معارضة الشاباك والجيش، وتحذيرهما من أن القرار من شأنه أن يؤدي إلى توتر أمني في الضفة، سيتصاعد إلى درجة اندلاع انتفاضة جديدة إذا استمر الإغلاق. لكن هذا ليس واقع الحال في إسرائيل.
أمس، ذكرت إذاعة الجيش الإسرائيلي أن مسؤولين أمنيين إسرائيليين أوصوا بفرض عقوبات على المسؤولين في السلطة الفلسطينية، وبينهم الرئيس محمود عباس ونائبه حسين الشيخ، من خلال منع تنقّلهم داخل الضفة والخروج منها ومحاصرتهم في رام الله، وذلك رداً على اعتراف الدول الغربية بالدولة الفلسطينية.
إذا أصر نتنياهو على إغلاق معبر الكرامة أمام البضائع لفترة طويلة، فإن من شأن هذا الحصار الاقتصادي أن يؤدي إلى تدهور الوضع الأمني في الضفة، لكن نتنياهو سيحصل على دعم حكومته، وربما على دعم أوسع من ذلك، لهذه الخطوة. فاستطلاعات الرأي أظهرت تأييد الإسرائيليين للحرب على غزة، ولتهجير الفلسطينيين، ولمخطط ضم الضفة، وللحرب على لبنان، وللحرب ضد إيران، وللعدوان على قطر.
رغم هذا التأييد، تجمع الاستطلاعات أن نتنياهو لن يتمكن من البقاء في الحكم بعد الانتخابات المقبلة، التي ينبغي أن تجري في تشرين الأول/ أكتوبر من العام المقبل بموجب القانون. ويتوقع في إسرائيل أن يحاول نتنياهو الفوز في الانتخابات من خلال انتهاك نزاهتها، أو أن يؤجل الانتخابات. وتأجيلها يحتاج إلى ذريعة أمنية كبيرة.
توتر أمني في الضفة لدرجة انتفاضة جديدة من شأنه أن يوفر لنتنياهو ذريعة كهذه. لكن التوقعات في إسرائيل، وفي العالم أيضاً، هي أن نتنياهو سيشن حربًا أخرى ضد إيران، إذا حاولت استئناف تخصيب اليورانيوم أو صنع صواريخ باليستية. ونشرت وكالة أسوشيتد برس، أول من أمس، صوراً التقطتها أقمار اصطناعية، تُظهر أن إيران تعيد بناء مواقع لإنتاج صواريخ باليستية. وهذه قد تكون ذريعة لإسرائيل لشن حرب أخرى.
في موازاة ذلك، يسود تخوف في لبنان من أن إسرائيل تخطط لاحتلال جنوبه، وأن تفرض في هذه المنطقة احتلالاً مشابهاً لاحتلالها لجنوب سورية. وتأتي هذه التخوفات في ظل رفض دولة لبنان استمرار احتلال إسرائيل خمسة مواقع داخل الأراضي اللبنانية، وأيضاً في ظل المطلب الإسرائيلي بجمع سلاح حزب الله ومصادقة الحكومة اللبنانية على هذا المطلب. لكن يبدو أن حزب الله لن يوافق على تسليم سلاحه، وهذا سيشكل أزمة داخلية في لبنان، وذريعة لإسرائيل لاستمرار احتلال المواقع التي تسيطر عليها، وربما توسيع احتلالها.
وعود بلا رصيد
ذكرت تقارير صحافية أميركية وعربية وإسرائيلية أن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، تعهّد لزعماء دول عربية خلال لقائه معهم على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، أول من أمس، بأنه لن يسمح لنتنياهو بضم الضفة الغربية لإسرائيل. لكن الواقع في الضفة الآن يوصف بأنه "ضم زاحف"، من خلال توسيع الاستيطان بشكل كبير جداً وشق شوارع تربط المستوطنات بإسرائيل.
كذلك تتحدث تقارير، في اليومين الماضيين أيضاً، عن أن إدارة ترامب بصدد تقديم مقترح مؤلف من 21 بنداً، لم تُنشر تفاصيله، لكنه يقضي بالإفراج عن جميع الرهائن الإسرائيليين، ووقف إطلاق نار دائم وإنهاء الحرب، وإقامة نظام مدني في غزة مؤلف من دول عربية والسلطة الفلسطينية، وانسحاب إسرائيلي تدريجي من القطاع، وإدخال مساعدات إنسانية بواسطة وكالات ومنظمات دولية.
لكن تعهد ترامب بمنع ضم الضفة وتقديمه مقترحًا لإنهاء الحرب على غزة، هما تطوران غير منطقيين بنظر إسرائيل، لأن الوزيرين بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، يعارضان وقف الحرب في العلن، لكنهما قد يوافقان على ذلك بشرط واحد وهو ضم الضفة. ونتنياهو لن يوافق على وقف الحرب، وقد يؤجل الحديث عن ضم الضفة، كي يمنع سقوط حكومته. وهو لا يزال يعلن أنه سينتصر على حماس وسيعيد الرهائن.
لقاء مرتقب بين نتنياهو وترامب وسط تصاعد الحرب على غزة
وسيلقي نتنياهو خطاباً أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، الجمعة، ولا يبدو أنه سيصرّح بأمور جديدة مختلفة عن تصريحاته طوال الحرب. والأهم من ذلك هو اجتماع نتنياهو مع ترامب، يوم الإثنين المقبل، وليس متوقعاً أن يقنعه الأخير بخططه. الأرجح أن يوافق ترامب، في ظل رفض نتنياهو لخططه، على أن تواصل إسرائيل حرب الإبادة في غزة حتى نهاية العام الحالي، لكن حتى ذلك الحين سيتراجع ترامب عن مطالبه من نتنياهو، الذي سيسعى إلى توسيع الحرب في المنطقة.
اتفاق محتمل بين إسرائيل وسوريا برعاية أميركية
يسعى ترامب إلى أن يكون عرّاب اتفاق أمني بين إسرائيل وسورية. وحسب أقوال المبعوث الأميركي إلى سورية، توماس باراك، الذي يتوسط المفاوضات حول اتفاق بين سورية وإسرائيل، فإن الجانبين "على وشك التوصل إلى اتفاق لخفض التصعيد" بينهما، وأن إسرائيل ستوقف هجماتها على سورية إذا جرى التوصل إلى اتفاق كهذا، مقابل التزام سورية بعدم نشر معدات وآليات عسكرية ثقيلة في المناطق القريبة من الأراضي السورية التي تحتلها إسرائيل، منذ 8 كانون الأول/ ديسمبر الماضي.
إلا أن رغبة ترامب بأن يكون عرّاباً وأقوال مبعوثه باراك ستصطدم هي الأخرى برفض إسرائيلي على ما يبدو. فبعد خطاب الرئيس السوري، أحمد الشرع، في الجمعية العامة، أول من أمس، أصدر مكتب نتنياهو بياناً مقتضباً، جاء فيه أنه "تجري مفاوضات مع سورية. وإنهاؤها مقرون بضمان مصالح إسرائيل، وبينها أن يكون جنوب غرب سورية منزوع السلاح والحفاظ على سلامة وأمن الدروز في سورية".
يتبين أن نتنياهو ليس مكترثاً بالمطالب الدولية بوقف الحرب في غزة ولا بالاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية، بل إنه يواجهها بمزيد من القوة، فيما هو مدعوم من الولايات المتحدة، ومن تعهدات وخطط بلا رصيد يطلقها ترامب تجاه العرب، مقابل اعترافات دول في أوروبا الغربية ليس من شأنها أن تؤدي إلى قيام دولة فلسطينية، حالياً، ولا أن تؤدي إلى إنهاء الإبادة في غزة، ولا تُبعد شبح الضم عن الضفة والحرب عن لبنان وغيرها، ولا إنهاء الاحتلال في سورية. الأوضاع مستمرة دون تغيير حتى إشعار آخر يبدو أنه بعيد.
المصدر: عرب 48
2025-09-26 || 11:11