مستشفى ميداني يغيّر المشهد الثقافي في نابلس
مركز بلدية نابلس الثقافي حمدي منكو الذي يعمل منذ 20 عاماً في خدمة فئات الشباب والأطفال والنساء، يتوقف عن العمل لصالح المستشفى الميداني الأردني. فهل "مقايضة" الثقافة بالصحة واختيار مكان إقامة طاقم المستشفى الإداري والطبي كان مناسباً؟ وهل سنشهد تآكلا في البنية الثقافية لنابلس؟
ليلة 17.1.2023 وصلت سبع قاطرات كبيرة من الأردن إلى بقعة من أراضي حديقة جمال عبد الناصر وسط مدينة نابلس، كانت آليات البلدية قد عملت على تسوية أرضها لاستقبال حمولة القاطرات. في نفس الليلة شرع المسؤولون بتشييد المستشفى الميداني الأردني الأول في نابلس، وسط شكوك وتخوفات المواطنين من دلالة إقامة المستشفى في مدينتهم، بدلاً من جنين والتي كانت تشهد آنذاك ذروة الاجتياحات الإسرائيلية لمخيمها.
كما تساءل مواطنون عن سبب اختيار المكان في حديقة عامة ووسط نابلس بدلاً عن نصب المستشفى الميداني في جنوب المدينة أو شرقها، حيث تكثر المواجهات والإصابات. رئيس البلدية سامي حجاوي صرح آنذاك بأن المسؤولين الأردنيين هم الذين اختاروا المكان بناء على معايير محددة لديهم. وجاء تصريح السفير الأردني عصام البدور ليبدد مخاوف المواطنين من المستشفى حين قال: "المبادرة عبارة عن رسالة تضامن ونصرة لأهلنا في فلسطين".
أقيم المستشفى على البقعة المخصصة له في أكبر حديقة عامة بالمدينة، أما الطاقم الطبي والإداري فتم توطينه في أكبر وأهم مركز ثقافي في نابلس، والذي تم إغلاقه كمركز ثقافي قبل هذا التاريخ بشهر وتخصيصه كمكان لإيواء عمال قطاع غزة الذين تقطعت بهم السبل وبقوا في الضفة الغربية بعد أحداث السابع من أكتوبر.
ويقول نائب رئيس بلدية نابلس حسام الشخشير لـدوز: "قمنا بتزويد كشف بالقاعات التابعة للبلدية ووقع الاختيار على مركز بلدية نابلس الثقافي (حمدي منكو) بناء على عدة معايير لوجستية، أهمها المساحة، الموقع، سهولة الوصول، وغيرها". ويذكر أن عدة مواقع كانت قيد الفحص، من بينها مخيم عسكر ومنطقة قريبة من مديرية التربية في شارع فيصل، لكن القرار الأخير كان "حمدي منكو" بناءً على رغبة الفريق الأردني.
الأزمات السياسة على حساب الثقافة
ويقع مركز بلدية نابلس الثقافي "حمدي منكو" غربي المدينة وهو جزء من حدائق جمال عبد الناصر. ويشمل مرافق ثقافية وترفيهية كالمسرح ومساحة خضراء وأرض فارغة تستخدم كمواقف سيارات ويمكن استعمالها للعديد من الأنشطة الخارجية. وتبلغ المساحة الكلية للمركز 2400 متر مربع، بينما تبلغ مساحة البناء 1400 متر مربع لكل طابق. والمبنى مكون من طابق تسوية وطابق أرضي يحوي كل منها على عدة مرافق وقاعات متعددة الأغراض. ونظراً لقربه من المناطق السكنية وسهولة الوصول إليه، يعتبر بمثابة حاضنة للشباب والأطفال من مختلف الفئات على مدار 20 عاماً منذ تأسيسه.
وعن قرار إنهاء خدمات مركز حمدي منكو لإقامة المستشفى الأردني الميداني في نابلس، يوضح الشخشير: "قمنا بفرز طاقم المركز على أقسام البلدية، وأبقينا مجموعة منهم ككتلة واحدة لنقلهم إلى موقع آخر لضمان استمرارية حمدي منكو. وذلك ضمن إستراتيجية بلدية نابلس الذي تنص على تعزيز الوجود الثقافي وتطوير عمل المراكز الثقافية". مضيفاً أن مشروع إقامة المستشفى كان بهدف خدمة أبناء البلد "مع الاعتراف بأن ذلك كان على حساب هيكلية حمدي منكو". وتم نقل إدارة المركز مع مجموعة من موظفيه إلى الملعب البلدي، الذي تم ترميمه مؤخراً بتكلفة وصلت مليون و400 ألف شيكل بما يشمل القاعات أسفل المدرجات، الكشافات، والإضاءة. وتبقى التعشيب، الذي يكلف حوالي مليون و700 ألف شيكل، حيث يتم ذلك تحت إشراف الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم.
يذكر مدير مركز حمدي منكو، أنور محروم، أنه "تم إيقاف نشاطات المركز بعد أحداث 7 أكتوبر أي قبل وصول المستشفى الميداني بحوالي شهر. وفي ذلك الوقت، كانت استضافة عمال قطاع غزة أولوية قصوى لكافة أفراد ومؤسسات نابلس بمن فيهم نحن، حيث لم يكتف المركز باستضافة العمال فقط، بل تم تشكيل لجنة تطوعية لتقديم المساعدات وتوافدت التبرعات من كافة مؤسسات المحافظة".
واستقبلت محافظة نابلس ما يزيد عن 500 عامل من قطاع غزة وهم من العالقين في الضفة بعد الحرب، واحتضن مركز حمدي منكو أكثر من 90% منهم. وعن هذا يقول مدير المركز "استضافة عمال القطاع كانت بصمة مضيئة في تاريخ حمدي منكو، فقد كنا نعمل على مدار الساعة لتلبية كافة الاحتياجات بمساعدة أهل الخير ونشاط المتطوعين". وبعد فترة جاء المستشفى الميداني بالتزامن مع رحيل غالبية العمال لغزة. ومنذ ذلك الحين لم تستطع إدارة المركز تنظيم أي نشاط لدعم الشباب والأطفال في مقر المركز، بالرغم من أن حاجة الأطفال والشباب للدعم في وقت الأزمات ازدادت".
ويؤكد محروم لـدوز، أنه وفي بداية الحرب، كان الجميع في حالة تخبط وترقب للمجهول، وكانت الأنظار جميعها تراقب تطورات الأحداث. وبعد مرور فترة، عاد أولياء أمور الشباب والأطفال للتواصل مع المركز والاستفسار عن أنشطته وتدخلاته في وقت الأزمات. وعن هذا يقول: "وردتنا عدة اتصالات من الأهالي يسألون عن أنشطة لأبنائهم، وهم يعلمون أنها فترة عصيبة لكن لا يريدون لأبنائهم أن يعانوا من مشاكل نفسية كتداعيات ما يرونه عبر الشاشات وما يسمعونه من أقرانهم حول الحرب". وتم تصميم خطة عمل لعام 2024، لكن قرار استبدال مقر حمدي منكو بالمستشفى الميداني كان أولوية مجتمعية.
نابلس والتآكل الثقافي
وفي تاريخ 19.11.2023 نشر عدنان البوبلي والذي يفضل وصفه كناشط شبابي عندما يتعلق الأمر بحمدي منكو، بعيداً عن عمله في المركز، عبر حسابه على السوشال ميديا، ما يلي:
"تآكل ثقافي.. بكل آسف ننعى مركز بلدية نابلس الثقافي - حمدي منكو عن عُمرٍ يناهز 20 عاماً من العمل والبناء والتنمية لفئات الشباب والأطفال والنساء؛ عشرون عاماً قضاها المركز في خدمة نابلس التي احتضن فيها عائلات الشـ.هداء والأسرى واستقبل الضيوف وتبنّى فيها الحروف، عشرون عاماً من الفنون والثقافة، من الحب والجدّ والكدّ والعمل.. والأمل؛ عشرون عاماً من المسرح".
ولدى حديثه مع دوز يقول البوبلي: "خسارة حمدي منكو هو كابوس، ولا أخفي تخوفي من فقدان المكان تماماً، فأنا مرتبط فيه عاطفياً ونفسياً. نعلم جميعاً أن المستشفى الميداني جاء بوقت مناسب وتلبية لاحتياجات مجتمعية طارئة، لكن في حال لم يكن الوضع بشكل مؤقت، فإن نابلس ستعاني من تآكل ثقافي". مضيفاً أن حمدي منكو يعتبر المساحة الوحيدة التي توفر قاعة عامة بشكل شبه مجاني، لأن الخيارات الأخرى مكلفة وتعتبر ملكاً خاصاً لمؤسسات وجامعات. ويرى أن المراكز الثقافية هي متنفس لكافة الشباب، بالأخص المبدعين منهم الذين يسعون لتطوير قدراتهم مجتمعياً وثقافياً ونفسياً. وما يميز حمدي منكو عن بقية المراكز أنه يعمل على مدار السنة وغير مرتبط بمشاريع معينة، أي أنه حتى في حال عدم توفر تمويل خارجي، فإن الخدمات تتوفر باستمرار.
وأما أسيد النابلسي (31 عاماً) فيقول لـدوز: "العلاقة الوثيقة التي تجمعني بمركز حمدي منكو ورثتها عن أخي، حيث كان متطوعاً سابقاً والتحقت بالمركز عندما أنهيت التوجيهي ولمدة 5 سنوات. كنا ننهي محاضرات الجامعة ونذهب للمركز ونقضي فيه وقتاً أكثر مما نقضي في بيوتنا. وحتى عندما تخرجت وانشغلت بالعمل، واظبت على زيارة المكان من حين إلى آخر لمشاركة بعض الأفكار والالتقاء بالمتطوعين الجدد ومشاركة التجارب". ويأمل النابلسي أن يعود المركز لوضعه السابق، فالنشاط المجتمعي يساعد الشباب على صقل شخصياتهم ومهاراتهم. مؤكداً أنه وعند عودة الأمور إلى طبيعتها، فإنه سيبذل ما بوسعه لاستمرار عمل المركز.
نابلس على موعد مع مشروعين جديدين
ورداً على هذه المخاوف، يذكر الدكتور حسام الشخشير، نائب رئيس بلدية نابلس "لا أحد يعلم المدى الزمني الذي سيبقى فيه المستشفى الميداني قائماً. وفي حال انتهاء مهمة الفريق الطبي الأردني ستعود الأمور إلى ما كانت عليه". مؤكداً أنه يتفهم مخاوف طاقم مركز حمدي منكو نظراً لما حل بهم من "تشتت" ولكن إمكانية تجميعهم مرة أخرى واردة. ويفيد الشخشير بأنه "لا يوجد لدى بلدية نابلس أي نية أو خطة لإنهاء وجود حمدي منكو، بل وعلى العكس نعمل على تعزيز المشهد الثقافي في المدينة، لكن الوضع الحالي يتطلب هذه التغييرات".
وتأكيداً على رؤية البلدية فيما يخص الوضع الثقافي في نابلس، يقول الشخشير إنهم يعملون على مشروع بالتعاون مع بلدية ليل الفرنسية بتكلفة 5 ملايين يورو، ويتضمن إنشاء "بوليفارد" يمتد من إسعاد الطفولة وحتى طلعة المتورات شرقي المدينة وجزء من المشروع سيتم تخصيصه لبناء مسرح يتسع لـ500 شخص. ويضيف "وفي هذه الأيام نعمل على إنشاء مركز ثقافي في منطقة المساكن الشعبية بتبرع من رجل الأعمال سمير نعيم عبد الهادي وشقيقه".
نجح مؤخراً طاقم مركز حمدي منكو بتنظيم أول نشاط لهم منذ حرب 7 أكتوبر، كان عبارة عن لقاء إرشادي للأمهات وأولياء الأمور حول آليات التعامل مع أطفالهم وقت الأزمات نظراً للآثار النفسية المترتبة من تعرض الأطفال للمشاهد المروعة في غزة وما تشهده الضفة من اغتيالات جوية واقتحامات وتدمير للبنية التحتية.
وفي تعليق على منشور في صفحة دوز على الفيسبوك عن إغلاق مركز حمدي منكو الثقافي وتحويله إلى مكان لنوم ودوام الطاقم الطبي والإداري للمستشفى، كتب مواطن متسائلاً: "شارع البساتين القريب جداً فيه عدة عمارات جديدة وفارغة، لماذا لا يتم نقل الطاقم الطبي والإداري إليها وإعادة فتح مركز حمدي منكو للنشاطات الثقافية؟"
دوز
2024-01-24 || 16:29