بعد حوالي 77 عاماً، يعيد التاريخ نفسه لآلاف الفلسطينيين في الضفة الغربية، الذين ذاق أجدادهم طعم النزوح بفعل النكبة وتبعاتها. فمنذ الحادي والعشرين من كانون الثاني/يناير 2025، أعلن الجيش الإسرائيلي بدء عملية "الجدار الحديدي" في جنين، والتي شملت الغارات الجوية إلى جانب الاقتحامات البرية. وفي السابع والعشرين من الشهر ذاته، انضمت طولكرم لهذه العملية بإجبار أهالي مخيم طولكرم على الرحيل تحت تهديد السلاح.
"كنت أعتقد أنهما يبالغان في وصف أهوال النزوح، بل وأستغرب عندما أراهما يبكيان وهما يستذكران النكبة ومآسيها"، بهذه الكلمات تستذكر السيدة عزة (35 عاماً) من سكان مخيم طولكرم، جدها وجدتها اللذان عاشا نكبة 1948 ونزحا من فلسطين التاريخية. وتضيف "لم أتوقع أن أعيش هذه التجربة، التي أصفها بأصعب لحظات حياتي". وكانت عزة قد نزحت مع زوجها وأطفالها إلى قرية إكتابا والتي تبعد حوالي ثلاثة كيلومترات عن المخيم.
يضم المنزل الذي نزحت إليه عزة سبع عائلات و25 طفلاً، ويحوي كبار سن من ذوي الأمراض المزمنة كالسكري والضغط والأمراض القلبية، إضافة إلى مريض سرطان. وترى عزة أنها وعائلتها الصغيرة "زادت الهم هماً" على المنزل الذي نزحت إليه، على الرغم من حسن الضيافة والاستقبال إلا أن الحاجة أكبر من القدرات المتوفرة.
أمل أم سوء تقدير؟ومن يقرأ ما كتب عن النكبة ويشاهد التغريبة الفلسطينية للمخرج حاتم العلي، لا يسعه إلا وأن يستذكر "الأمل" أو برواية أخرى "سوء التقدير" الذي حل بالفلسطينيين عندما ظنوا أنهم سيعودون خلال يومين أو ثلاثة إلى ديارهم، ما جعلهم يتركون كل ما يملكون وراءهم. هذا تماماً ما حدث مع عزة، التي لم تحمل معها سوى حقيبتها الشخصية وألعاب أطفالها، الذين حاولوا إقناعها بأخذ أكثر مما كان معهم، إلا أنها رفضت. وتردف "توقعت أن لا يطول نزوحنا لأكثر من ثلاثة أيام، والآن مر أسبوع ولم نعد. الشيء الذي أندم على عدم أخذه هو الأوراق الثبوتية كالهوية الشخصية وشهادات ميلاد الأطفال".
وإضافة إلى الأوراق الثبوتية، ندمت عزة على عدم إحضار الكتب المدرسية الخاصة بابنها وهو طالب في السنة الأخيرة من الثانوية العامة "التوجيهي"، رغم إيقانها بأن أجواء النزوح لا تشجع أي طالب على الدراسة نظراً للتشتت والإحباط الذي يحيط بأبنائها.
اضغط للمشاهدة: نزوح المواطنين من مخيم طولكرموتتابع: "عندما كنا نجهز أنفسنا للخروج من المنزل لم تكن الظروف مريحة، فصوت طائرات الجيش الاستطلاعية وكأنها فوق رؤوسنا، وكنا خائفين أن يتم قصفنا. وقلت في نفسي (إذا أخذت كل ما أستطيع حمله، فهذا يعني أنني لن أعود، فتركت كل شيء خلفي لترتاح نفسي وتطمئن بأنني سأعود حقاً، فكيف لي ألا أعود وكل حياتي وحياة أطفالي في المخيم)".
إلا أنه وسرعان ما ارتطمت عزة بواقع النزوح وصعوبة توفير كل ما كان متوفراً في منزلها، فالأسواق مغلقة والطرق خطرة والمخيم تحت الحصار. وتقول: "أرتدي الحذاء الرياضي نفسه الذي خرجت به من المنزل طيلة الوقت، حتى عندما أدخل إلى دورة المياه، فلم أجلب معي أي بديل. وأما الملابس، أرتديها نفسها لأربعة أيام متتالية ثم أغسلها وقت سطوع الشمس حتى تنشف بوقت قصير لألبسها مرة أخرى". وبالنسبة للنوم، فالمعاناة أكبر، إذ تم تقسيم السبع عائلات على ثلاث غرف، غرفة للنساء وغرفة للرجال وغرفة للأطفال.
مخاوف عديدة تساور عزة منذ ليلة النزوح، ومخاوف أكبر لدى أطفالها الذين لا يكفون عن سؤالها: متى سنعود؟ هل قصفوا منزلنا؟ هل حرقوه؟ أم أتلفوا محتوياته؟ ماذا حل بجيراننا؟ إلا أن ما يقلق عزة هو عدم العودة مرة أخرى لمخيمها، وتقول: "كل شيء يمكن تعويضه إلا عدم القدرة على العودة، فإن قصفوا المنزل، سنعيد بنائه، وإن حرقوه، سنصلحه، وإن كسروا جميع محتوياته سنعوضها. لكن من المخيم، لن نخرج".
"منزلنا ثكنة عسكرية"أما نغم (21 عاماً) وهي طالبة جامعية نزحت من مخيم طولكرم، فأكبر مخاوفها هو عدم قدرتها على التخرج وهي في سنتها الدراسية الأخيرة، بعد أن تركت هي وعائلتها منزلهم، الذي حولته قوات الجيش الإسرائيلي إلى ثكنة عسكرية. وأيقنت نغم أن تحويل منزلها إلى ثكنة عسكرية يعني أن خراباً أكيداً سيحل به. وعن هذا تقول: "ما يشغل بالنا يومياً هو ماذا يفعل الجنود في منزلنا؟ يا ترى هل تركوا شيئاً مكانه؟ وما يُصبر أمي على الأخبار التي ترد عن منزلنا، هو أنها استطاعت قبل الرحيل أن تحتفظ بصور أخي الشهيد، بالرغم من أنها أرادت أخذ أكثر مما لديها من أغراضه، كتبه، ملابسه، وحتى جهاز اللابتوب الخاص به". وبدورها، استطاعت نغم أن تأخذ بعض الأدوية والملابس، التي تكفي لبضعة أيام فقط.
اضغط للمشاهدة: مواطنون ينزحون مكرهين من مخيم طولكرم ومثلها كبقية النازحين الذين قابلناهم، لم يخطر في بالها أن النزوح سيطول أكثر من يومين أو ثلاثة. وكانت تأمل لو كان لديها الوقت الكافي لأخذت كتبها الجامعية والروايات التي تقرأها، بل ولو استطاعت حمل المنزل كله لما ترددت، حسبما أفادت.
تقضي نغم يومها في متابعة الأخبار عبر هاتفها المحمول، وتخاف أن تلتهي قليلاً عنه، حتى لا تعود لخبر مفجع أو تطورات سريعة في مخيم طولكرم، حيث يوجد منزلها. وأكثر ما يؤلمها هو تشتت العائلة، فبعض أخوتها في مكان والقسم الآخر في مكان آخر. ويتساءل الأطفال في عائلتها: متى سنعود للمخيم؟ هل سيكون مصيرنا مثل غزة؟ هل ستطول الحرب علينا؟
من الصفرإن كان هناك شيء أسوأ من النزوح، فهو النزوح مرة أخرى. فمنذ بدء العملية الإسرائيلية في مخيم جنين، نزح ما لا يقل عن 15 آلاف فلسطيني إلى خارج المخيم. وما زال العدد في ازدياد حتى لحظة كتابة هذا التقرير. ومن بين قصص النزوح وجدنا سمر، التي تعيش مع زوجها وأطفالها في مخيم جنين، واضطرت إلى النزوح إلى منزل أهلها في مخيم طولكرم. وبعد أن استقرت في منزل أهلها، اجتاح الجيش المخيم وأجبر أهله على الرحيل، ما دفعها إلى النزوح مرة أخرى، ولكن هذه المرة مع أمها وأخوتها وأطفالها، بينما نزح زوجها إلى مكان آخر.
وتستذكر سمر لحظات الرحيل الأخيرة، حيث كانت تعلو الأصوات وهم يعدون بعضهم البعض، ليطمئنوا أنهم لم يفقدوا أحداً خلال عملية النزوح. وأما ابنها الصغير، فانتابته حالة نفسية بسبب خوفه من أصوات إطلاق النار والانفجارات، ما دفعه لعدم الرغبة في اللعب أو الابتعاد عنها. وعن هذا توضح: "كان ابني يحب اللعب مع أصدقائه كثيراً وأما الآن فهو لا يجرؤ على الخروج من المنزل وتصيبه حالة من الذعر الشديد عند سماع الانفجارات".
ولم يسلم أبناؤها الأكبر من التبعات النفسية الملازمة للحروب، حيث أصبحوا أكثر عناداً ويسألون بتكرار عن المستقبل وماذا سيحل في منزلهم. وتعيش حالياً سمر مع أهلها وأخواتها وأطفالهن الـ11 في نفس المنزل. وتردف: "أصعب شيء في حياة النازح هي أن تبدأ من الصفر. فقدنا كل شيء، منزلنا، ومصدر رزقنا، وكل شي نملكه.
فقدان المنزل لأي إنسان هو تجربة مؤلمة ومؤثرة للغاية، خاصة عندما يكون مصحوباً بالتهجير والنزوح. أما بالنسبة للفلسطينيين، فإن خسارة المأوى تشكل "تراوما" صدمة نفسية عميقة (Trauma) بفعل ارتباطها بشبح النكبة الذي يخيم على حياتهم والمتجذر في اللاوعي لدى كل فلسطيني. لذا يخشى كل فلسطيني تكرار تجربة النكبة، خاصة بعد تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في الوقت الذي ما يزال فيه حق العودة وقضية اللاجئين بانتظار الحل.
دوز