مـعـاريــف: فـــي "نـير عـــوز" سقـطــت إسـرائيـل
يُناقش الكاتب بن كسبيت فشل الحكومة الإسرائيلية في حماية مواطنيها خلال هجمات 7 أكتوبر، ويُشير إلى أن كارثة كيبوتس "نير عوز" هي أكبر مثال على هذا الفشل، كيف؟
في النصف سنة المعينة التي مرت علينا توجد ذروة ودرك. كانت هذه هي الساعة القاسية إن لم نقل البائسة للقيادة السياسية والعسكرية. كانت هذه هي الساعة العظمى للشعب ومقاتليه. من الصعب أن نتخيل شعبا آخر ينهض من رماد 7 أكتوبر، من الهزيمة المهينة، من السقطة الأليمة والدامية، غير شعبنا. من الصعب التفكير بجيش آخر ينتعش في غضون يوم واحد من أحد الإخفاقات الأكبر في تاريخه وفي تاريخ الشعوب. طوبى لنا أننا حظينا بمقاتلين ومواطنين كهؤلاء. مصيبتنا أننا حظينا بهؤلاء الزعماء وببعض من هؤلاء القادة.
ليس في العالم دولة ديمقراطية كانت حكومتها ستبقى على حالها أكثر من أسبوع بعد مذبحة 7 أكتوبر. أما عندنا، فليس فقط المجرمون يبقون في مكان الجريمة بل يواصلون التنكيل بالدولة التي اختارتهم لمناصبهم. بعض منهم يفعلون أيضا آلات السم المتطورة ضد العائلات التي تركت لمصيرها في 7 أكتوبر. بدلا من أن يقفوا أمام عائلات المخطوفين والمغدورين مطأطئي الرأس خجلا فإن بعض من «زعمائنا» يتهمون المواطنين الذين تركوا لذبحهم بالسقطة كلها.
نير عوز مثال لفشل إسرائيل
ليس ثمة مثل كيبوتس «نير عوز» لتجسيد الكارثة. كيبوتس صغير، 380 عضوا بالإجمال، يعيش بتواضع على هوامش الغلاف، بعيدا عن المركز، قريبا جدا من غزة. زراعة، فلاحة، أبقار وطيور، وكذا مصنع لمواد التغليف. لأكثر من عشرين سنة تربى أطفال الكيبوتس في ظل صواريخ «القسام». ومثل باقي أطفال الغلاف كله، لا يتذمرون ولا يشكون، يشعرون بأنهم محميون في محميتهم الطبيعية الصغرى الجميلة والمليئة بالخضرة.
في 7 أكتوبر، احترق كل هذا وتغمس بالدماء. «نير عوز» يمثل فظاعة 7 أكتوبر لأنه هو المكان الوحيد الذي لم يصل إليه أحد للنجدة في ذاك الصباح. لا شرطي، لا جندي، لا مقاتل، لا ضابط، لا إطفائي، لا مسؤول.
لم يأتِ أحد. الكيبوتس احترق وحده. وسكانه كافحوا النار من داخل غرفهم الأمنية، يقاتلون كي لا يختنقوا، يكافحون لحماية أطفالهم، للبقاء على قيد الحياة.
مثل «نير عوز»، تضررت أماكن كثيرة أخرى بشدة، وبينها «بيري»، «كفار عزة» و»سديروت». في هذه الأماكن دارت معارك. كانت مقاومة. وصل إلى هناك ممثلو السيادة الإسرائيلية. مقاتلون، دبابات، مروحيات، شرطة، شيء ما. كانوا قلة أمام كثرة، لكنهم قاتلوا.
سقوط إسرائيل
في «نير عوز» لم يكن أحد. في صباح فرحة التوراة عاد «نير عوز» إلى الوراء في الزمن. إلى أيام أخرى، رهيبة، أيام لم يكن فيها من يحمي اليهود. على مدى كل أيام حياة أرئيل شارون الراشدة كان يقول، إن إسرائيل قامت كي يكون مكان يمكن لليهود فيه أن يدافعوا عن أنفسهم بقواهم الذاتية. في 7 أكتوبر 2023، صباح فرحة التوراة سقطت إسرائيل. خانت مهمتها، اختفت.
تحول الكيبوتس الصغير والفخور ليصبح بلدة يهودية تخضع لرحمة الزعران الذين يتراكضون في شوارعها ويحطمون رؤوس نسائها وأطفالها. رمزيا. حرق، يا أخوتي، حرق. لأول مرة منذ قيام دولة إسرائيل وجد مواطنوها أنفسهم بلا أي حماية. متروكين لمصيرهم. متروكين لرحمة المشاغبين، محاصرين في غرفهم الأمنية، في بيوتهم المحروقة، في كيبوتسهم المحترق، بلا وسيلة تماما.
في 7 أكتوبر، عادت الاعتداءات الجماعية إلى إسرائيل ووقعت بكل شرها، في «نير عوز». قصة «نير عوز»، رويت مرة أخرى في تقرير بث يوم الجمعة الماضي في أستديو يوم الجمعة. أعضاء الكيبوتس الذين التقى بهم التقرير شددوا على أنهم ليسوا ناجين بل باقون. بمعنى انه لم يأتِ أحد لينقذهم بل بقوا على قيد الحياة كيفما اتفق بقواهم الذاتية.
"نير عوز" نصبٌ تذكاري
كان هذا إفلاسا تاما للدولة. إعلان إفلاس رسمي. آباء، وأمهات وأطفال قاتلوا في سبيل حياتهم من داخل الغرف الأمنية المحترمة. يسألون أنفسهم أين الجيش، أين الشرطة، أين الفرقة، أين سلاح الجو، أين «الشاباك»، أين الكل؟ لكن أيا من هؤلاء لم يكن هناك. فقط مخربو النخبة الذين لم يصدقوا حظهم السعيد. قتلوا، دمروا، احرقوا، سلبوا ونهبوا. ببساطة لم يتبقَ لهم عمل. فقط في 14:00 ظهرا دخلت إلى «نير عوز» سيارتا دورية شرطة. قليل جدا، متأخر جدا. «نير عوز» يجب أن يتحول إلى نصب تذكاري. هذا الكيبوتس يجب أن يزدهر من جديد، لكن النصب التذكاري يجب أن يخلد لأجل الأجيال التالية. نصب تذكاري للغرور، لعدم المبالاة، للتعالي، للتسيب، للاعتداد بالنفس وللإهمال. خمسون سنة ويوم واحد بعد أن حصل لنا هذا، للأسباب ذاتها في الملابسات ذاتها.
المجتمع المدني سد ثغرات الدولة
بعد هذا الدرك الذي ليس دونه شيء جاءت الذروة، مظاهر البطولة التي اندلعت في ذاك اليوم من كل صوب لم تظهر أبدا في مطارحنا. مقاتلون، ضباط، مواطنون عاديون، أناس القوا بأنفسهم إلى اللظى، كي يقاتلوا، كي يدافعوا، كي ينقذوا الحياة. بعضهم دفعوا الثمن بحياتهم. اليقظة السريعة للجيش الإسرائيلي، الذي نجح في أن يقلب الجرة على فمها ويستخدم قوته بشكل لم يبقِ شكا حول موازين القوى الحقيقية. المجتمع المدني الذي انجذب إلى فراغ الدولة المجرمة ورمم، أخلى، زود، جمع، دعم، ساهم وأصبح نوعا من الحكومة القومية، كلية القدرة، المفعمة بالطاقات المجنونة التي لا يوجد مثلها في أي مكان آخر على وجه الأرض.
بقدر ما يتبين أن الحكومة المنتخبة والقائمة ليست إلا إدارة فارغة من الانتهازيين عديمي أي قدرات، هكذا تبينت العظمة الكامنة في هؤلاء الأشخاص أنفسهم. الإسرائيليون. روح التطوع التي لا تنتهي. التضحية الشخصية، الاحتياطيون الذين تركوا كل شيء وهرعوا لخدمة العلم، المتقاعدون الذين دقوا بوابات القواعد. عظمة أثبتت مرة أخرى بأنها لا تهزم. يمكن أن تفاجئها، يمكن أن تضربها، يمكن أن تحرجها، يمكن أن تهينها لكن لا يمكن أن تهزمها.
الكاتب: بن كسبيت/ معاريف
2024-04-08 || 13:49