كيف يعيش أبناء الأسرى في غياب آبائهم؟
تسعة آلاف و500 أسير فلسطيني يقبعون في السجون الإسرائيلية حتى بداية آذار/ مارس 2025. وفي الوقت الذي ينظر المجتمع الفلسطيني فيه إلى الأسرى بعين الفخر والتضحية، يعيش أبناؤهم تحت ظل سمعة أبناء "الأبطال". فكيف يعيش أبناء الأسرى بعد انطفاء الأنوار؟ ومن يقف بجانبهم في مختلف مراحل حياتهم؟
كيف تنامون بالمنزل لوحدكم؟ ومن يشتري لكم الطعام؟ أسئلة تكررت في ذكريات طفولة آية، ابنة الأسير الفلسطيني فواز بعارة من مدينة نابلس. آية والتي تبلغ من العمر 22 عاماً، لا تزال تذكر نظرات الطالبات الفضولية وأسئلتهن عن غياب والدها، حيث كانت الطالبة الوحيدة من أبناء الأسرى في المدرسة. وعن هذا تذكر: "في الحقيقة لم أكن أملك أي إجابة لأسئلة زميلاتي في المدرسة ولا ألومهن إطلاقاً. فهذه الأسئلة طبيعية جداً لأي طفل محاط بوالديه، فالطفل يعتبر والده مصدراً للسند والحماية، شيء لم أشعر به طيلة حياتي".
اعتقل الجيش الإسرائيلي والد آية عام 2004 حين كانت رضيعة بعمر سنة ونصف. وكانت آية أصغر إخوتها (7 أعوام) و(6 أعوام) يعيشون مع والدتهم في منزل بسيط في البلدة القديمة. وكان والدها يعمل حارس أمن في إطفائية بلدية نابلس. وتقول آية: "لم يسمح لنا بزيارة أبي في بداية اعتقاله وبعد سنوات عديدة تمكن أحد الأهالي من اصطحابنا أنا وإخوتي عبر (كفيل) ولم نكن نعلم مدى صعوبة رحلة الزيارة. الطريق طويلة وتعرضنا لتفتيش همجي من قبل الجيش وأجبرنا على الجلوس على الأرض في البرد القارس وأحياناً في الحر الشديد".
45 دقيقة
كانت الزيارات العائلية للأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية تتم بعد الحصول على تصاريح "أمنية". وعملية الحصول على تصريح من الممكن أن تستغرق ثلاثة أشهر في حال لم يتم الرفض في الأساس. ولكن عملياً، فإن المئات من العائلات الفلسطينية لم تستطع الحصول على تصاريح إطلاقاً بحجة "أسباب أمنية" دون توضيح سبب رفض قبول الطلب. وبعد 7 أكتوبر، فإن الزيارات منعت بشكل كامل، ليس فقط لأهالي الأسرى بل لمحاميهم أيضاً. وعندما كانت الزيارات العائلية مسموحة، فإن مدتها كانت لا تتجاوز 45 دقيقة. وفي داخل غرف الزيارات يوجد لوح زجاجي يفصل بين الأسير وعائلته، حيث يتم التواصل بينهم عبر الهاتف أو عبر بضعة ثقوب في اللوح الزجاجي، مع تحديد عدد المسموح لهم بالزيارة.
وعن تجربته، يوضح عاصف، ابن الأسير المحرر أشرف نوفل من قرية دير شرف، أن زيارة السجن كانت جزءاً مهماً من حياته، فقد كانت فرصة للاطمئنان على صحة والده واللقاء به وجهاً لوجه من خلف زجاج فاصل. وأكثر ما كان يزعج عاصف هو أن المكالمات مسجلة وكل شيء مراقب، فالجنود يسمعون كل شيء ويشاهدون كل حركاتهم وهم في أضعف حالاتهم حيث تملأهم المشاعر وتغلبهم الأحاسيس. وعن هذا يقول: "هذا كله يهون مقابل رؤية والدي، فالزيارة هي المتنفس الوحيد للأسير وعائلته، وتسد رمق اشتياقنا لبعضنا".
وبحسب عاصف، الذي اعتقل والده وهو في الخامسة من عمره، فإذا كانت هناك كلمات تصف رحلة الوصول للسجن فهي "العذاب والذل والمهانة". ويذكر عاصف الحواجز التي تفصل بين الضفة الغربية والخط الأخضر، أبرزها حاجز الطيبة. حيث كان يتم تفتيشهم بأشعة الليزر وأحياناً بشكل يدوي إضافة للبوابات الإلكترونية. وبعد كل هذا التفتيش يتم إعادة الكرة مرة أخرى قبل دخول مقرات زيارة الأسرى.
الخيال رفيق الغياب..
ولعل أصعب لحظات الحياة بالنسبة لأبناء الأسرى هي المناسبات الاجتماعية، كالتخرج من المدرسة أو الجامعة وبالأخص حفلات الزواج وإنجاب الأطفال. ويذكر عاصف أنه بالرغم من الدعم الكبير الذي حظي به منذ الطفولة من الأقارب، حيث سانده أشقاء والده ووالدته وعاملوه بحسن يفوق معاملتهم لأطفالهم، إلا أن غياب والده كان له أثر كبير في مختلف مراحل حياته. وكان حلم عاصف أن يزور والده مدرسته كما يفعل آباء أصدقائه، وعند زواجه غلبه الشعور بالشوق لوالده بشكل مضاعف. وكانت تجربة غياب والده في الأسر، السبب الأبرز في اختيار تخصصه الجامعي، حيث درس الصحافة بهدف إيصال صوت الأسرى السياسيين والدفاع عن حقوقهم. بالرغم من أنه أنهى دراسة هندسة الاتصالات في السابق إلا أنه عاد للجامعة من جديد لدراسة الإعلام.
لا يملك عاصف سوى ذكرى واحدة عن والده قبل اعتقاله، بالرغم من أنه كان في الخامسة. يذكر عاصف بعض اللحظات من يوم اعتقال والده بتاريخ 24.05.2001، حيث داهم الجيش الإسرائيلي منزلهم وتم إجبار العائلة على الخروج ثم وضعوهم في زاوية بساحة المنزل، بينما قام الجنود باعتقال والده وتدمير محتويات البيت. وأما آية فلا تملك أي ذكرى مع والدها، حيث كان رضيعة عند اعتقاله وتقول: "لم أعش طفولتي يوماً واحداً، كنت دائماً أعتمد على الخيال لأنني أشعر بفراغ كبير حتى هذه اللحظة" وتضيف "عند غياب الأب، الفرحة دائماً تنقص والحزن دائما يتضاعف".
يلجأ أبناء الأسرى للخيال عندما لا يرضيهم الواقع، وأكثر لحظة كان يصعب تخيلها لدى عاصف وآية هي لحظة الإفراج عن والد كل منهما. بعد حرمان 24 عاماً، وبتاريخ 30.01.2025، أفرجت السلطات الإسرائيلية عن والد عاصف ضمن صفقة التبادل إثر أحداث 7 أكتوبر. "صدقاً كنت عاجزاً عن تخيل يوم الإفراج عن والدي، حاولت التفكير بأكثر من سيناريو إلا أن عقلي وقف عاجزاً بشكل كامل" ولم يتمالك عاصف نفسه عند رؤية والده وصرخ من أعماق قلبه "ياباااااا" رغم أنه كان منهكاً بشكل كبير. مشهد حفر بذاكرته ويعتبره عاصف تاريخ ميلاد جديد له قائلاً: "سأحتفل بيوم ميلاد جديد وهو يوم الإفراج عن أبي".
أما آية، التي اعتقل والدها وهي رضيعة، فكبرت وتزوجت وأنجبت طفلة بعمر (سنة ونصف) أي بنفس العمر الذي كانت فيه عندما فقد والدها حريته، فلا يزال والدها أسيراً منذ أكثر من عشرين عاماً. وتختم قولها: "حبيبي بابا اشتقتلك كتير.. وأنا اليوم صرت أم.. بنتك يلي تركتها صغيرة صار عندها طفلة بنفس العمر يلي تركتها فيه".
دوز
2025-02-23 || 19:54