من شواطئ غزة إلى كازيات الضفة: حرب على الطاقة الفلسطينية
فلسطين غنية بالغاز الطبيعي، وهي ثروة كامنة يمكن أن تغير وجه المنطقة، لكنها تتحول إلى وقود لصراع معقد. يكشف هذا المقال كيف أصبحت موارد الطاقة ورقة مساومة وسلاحاً في قلب النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، من مشاريع التصدير الإسرائيلية إلى أزمة الطاقة الخانقة في غزة والضفة الغربية.
"كمية الغاز الموجودة في فلسطين هائلة إلى درجة أنها قد تجعل فلسطين غنية مثل الكويت"، عبارة تتردد على نطاق واسع في تحليلات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي من منظور الموارد الطبيعية. تعود هذه الفكرة إلى الاقتصادي الكندي ميشيل شوسودوفسكي، الذي اشتهر بتأسيس وإدارة "مركز أبحاث العولمة". وقد خصص شوسودوفسكي جزءاً من أعماله للتركيز على الهجمات الإسرائيلية على قطاع غزة، وربطها بالسيطرة على موارد الطاقة، وتحديداً الغاز الطبيعي الموجود قبالة سواحل غزة.
وعلى الرغم من أن تحليلات شوسودوفسكي قوبلت بالرفض من قبل مركز الناتو للتميز في الاتصالات الإستراتيجية ووزارة الخارجية الأمريكية، فإن أعماله تحظى بانتشار واسع وتُقتبس من قبل العديد من وسائل الإعلام والمحللين، لا سيما في سياق نقد السياسات الغربية والإسرائيلية في الشرق الأوسط.
لعبت مصادر الطاقة، وخاصة النفط والغاز، دوراً محورياً في العديد من الصراعات عبر التاريخ. فالحروب معقدة وتتداخل فيها عوامل سياسية واقتصادية وأمنية، لكن السيطرة على موارد الطاقة أو تأمين خطوط إمدادها هي أسباب كافية لافتعال حرب كما حصل في غزو العراق، حرب الخليج الأولى والثانية، ومؤخراً حرب روسيا وأوكرانيا.
قبل وبعد السابع من أكتوبر
بالعودة إلى الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، تعمل إسرائيل منذ سنوات على مشروع "الكابل الكهربائي الأوراسي"، والذي يهدف إلى تصدير كهرباء مولدة بالغاز إلى أوروبا من خلال ربط شبكات الكهرباء في إسرائيل وقبرص واليونان بأوروبا. وبالتالي، إذا زادت إسرائيل من قدرتها على توليد الكهرباء من الغاز الطبيعي، فإن هذا الكابل سيمكِّنها من تصدير الكهرباء إلى أوروبا، مما يساهم في تنويع مصادر الطاقة الأوروبية وتقليل الاعتماد على روسيا. ومن الجدير ذكره أن هذا المشروع يندرج تحت تصنيف المشاريع ذات "المصلحة المشتركة" من قبل الاتحاد الأوروبي، ويحظى بدعمه وتمويله.
يظل السابع من أكتوبر نقطة مفصلية تساعد في تحليل تاريخ ومستقبل الصراع في الشرق الأوسط. أما في الثامن من أكتوبر، فقد أعلنت وزارة الطاقة الإسرائيلية أنها ستوقف العمل مؤقتًا في حقل "تامار" على أراضيها، وستبحث عن مصادر بديلة للغاز. وقبل أسابيع قليلة من السابع من أكتوبر، كان رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو قد التقى بالرئيس التركي أردوغان للمرة الأولى شخصياً، وذلك على هامش اجتماعات الأمم المتحدة في نيويورك لبحث تعزيز التعاون في مجال الطاقة. وقد صرح وزير الطاقة التركي بأن اللقاء تناول "فرص تعاون في مجال الطاقة بشكل أساسي، مثل استكشاف الغاز الطبيعي وإنتاجه والتجارة فيه".
الطاقة كسلاح إبادة
حاولت العديد من الدراسات الأممية الاقتصادية والقانونية تحديد حصة الفلسطينيين في موارد النفط والغاز التاريخية والمشتركة، لكن التسارع الذي تشهده إسرائيل في تعزيز نفوذها بالسيطرة على الموارد الطبيعية ساهم في حرمان الفلسطينيين من الموارد الحيوية مثل النفط والغاز. تكمن أهمية هذه الموارد في كونها الخيط المشترك الذي يربط بين النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية والبيئة الصحية. في الوقت الذي تسعى فيه الدول إلى تحقيق التنمية الذاتية من خلال تسخير مواردها لتلبية احتياجاتها، تستنزف إسرائيل موارد الأراضي الفلسطينية مخالفةً بذلك القانون الدولي (خاصة اتفاقيات لاهاي وجنيف)، التي لا تمنح إسرائيل حقوقًا سيادية على الأرض المحتلة وتحظر عليها استغلال الموارد الطبيعية لتلك الأراضي لمصلحتها الخاصة.
وفي سياق الحرب على غزة، أو بالأحرى الحرب على الفلسطينيين في مختلف أماكن تواجدهم، تسارع إسرائيل في استنزاف الموارد الطبيعية لخدمتها دون الاكتراث بواجباتها القانونية كقوة احتلال. ومنذ السابع من أكتوبر، أوقفت إسرائيل جميع إمدادات الطاقة لقطاع غزة، الأمر الذي أدى إلى توقف خدمات المياه والصرف الصحي وجمع النفايات، والكهرباء التي هي الأساس للإنارة والتدفئة والطهي وتشغيل الأجهزة، والتعليم، والرعاية الصحية بما في ذلك الرعاية الوقائية والعلاجية، إضافة إلى المواصلات والاتصالات. وبهذا مارست إسرائيل كل ما يمكن تخيله ولم تكتفِ بترساناتها العسكرية، بل استخدمت الطاقة كأداة قتل لا تقل ألمًا عن الرصاص والقنابل. أغلقت المشافي أبوابها في ظل عدم توفر الطاقة اللازمة لتشغيل الأجهزة الطبية، وساهم عدم توفر غاز الطهي في مجاعة لم يسبق لها مثيل في تاريخ الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين.
تسببت حرب غزة في نكسة كبيرة لقطاع الطاقة الفلسطيني، حيث أعادته إلى الوراء ثلاثين عاماً بحسب خبراء. فقد لحقت أضرار بالغة بأكثر من 68% من شبكات الجهد المتوسط والمنخفض والنقل. كما دُمر 70% من مباني سلطة الطاقة وشركة التوزيع، بالإضافة إلى 90% من المستودعات والمخازن. تُقدر القيمة الإجمالية للأضرار التي لحقت بقطاع الكهرباء في غزة بأكثر من 450 مليون دولار.
وفي الضفة الغربية، أكدت الحكومة الفلسطينية أن هناك تقليصاً مستمراً لكميات الوقود الخاصة بالضفة الغربية والواردة من شركات التوريد الإسرائيلية، مما أدى إلى أزمة غير مسبوقة في محطات المحروقات بمختلف المحافظات. وكان أبرزها الأزمة في محافظة نابلس شمال الضفة، إذ تراكمت المركبات على امتداد البصر في طوابير أمام المحطات بانتظار الدور لتعبئة الوقود. وقد انتظر بعض المواطنين لأكثر من 3 ساعات ليحظوا بكمية ميسورة من الوقود، وآخرون لم يحالفهم الحظ وأغلقت المحطات أبوابها عند انتهاء الكميات الموردة لذلك اليوم. يشار إلى أن معدل استهلاك المحروقات في الضفة الغربية يبلغ ما بين 90-100 مليون لتر شهرياً، حيث إن 80% من المركبات تستهلك السولار و20% البنزين في الضفة.
ولم تقتصر الأزمة على محطات الوقود بالضفة، بل امتدت إلى أزمة في غاز الطهي، حيث أغلقت محطات تعبئة الغاز أبوابها في وجه المواطنين الذين أفاقوا على خبر وجود أزمة دون أي سابق إنذار. وبعد انكشاف الأزمة، أصدرت الحكومة الفلسطينية تعميمًا يقضي بمنع محطات تعبئة الغاز من توزيع 60% من الغاز والتصرف بـ40% من الكمية من خلال بيعها للمستشفيات والمخابز حصراً. وانتشرت إشاعات حول إمكانية قطع الكهرباء من الجانب الإسرائيلي لفترات طويلة، والتي نفتها الحكومة الفلسطينية. إلا أن أهالي الضفة الغربية يعانون بشكل دوري، وخاصة في الصيف، من انقطاعات متكررة بالكهرباء، حيث تعمد السلطات الإسرائيلية إلى توفير الكهرباء للمستوطنات غير القانونية، وفي حال وجود فائض يتم إمداد المدن والقرى الفلسطينية بالكهرباء.
نظراً لأن الأراضي الفلسطينية تعتمد بشكل شبه كامل على الكهرباء المستوردة من شركة الكهرباء الإسرائيلية بنسبة تفوق 90%، أطلقت الحكومة مبادرة "بناء فلسطين"، التي تسعى لرفع نسبة الطاقة المتجددة إلى 30% بحلول عام 2030 بهدف تحقيق نقلة نوعية نحو الاستدامة. وفي إطار هذه الجهود، تم توقيع اتفاق مع النرويج لتركيب أنظمة شمسية في 13 مستشفى بقيمة 5.7 مليون دولار. كما جرى تنفيذ مشاريع طاقة شمسية بقدرة 1.25 ميجاواط في 14 مؤسسة حكومية، وبدأت التجهيزات لمشاريع تخزين طاقي في طوباس وطولكرم بقدرة إجمالية بلغت 35 ميجاواط/ساعة. وشهد القطاع إطلاق أول عطاء تنافسي لمشاريع شمسية بقدرة 20 ميجاواط بدعم من البنك الدولي.
صراعات مستقبلية
يُظهر الوضع الراهن، كما هو موثق في العديد من التقارير والدراسات الصادرة عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد)، أن إسرائيل تفرض قيوداً كثيرة على حركة الشعب الفلسطيني، وإنتاجه، وصادراته، ووارداته، وتحويلات رأس المال، والإيرادات العامة، وحيزه السياسي. هذه القيود تُكلف الفلسطينيين تكاليف إضافية تتصاعد مع استمرار الاحتلال، في انتهاكٍ للقانون الدولي والعدالة الطبيعية. حتى الآن، وصلت التكاليف الحقيقية والفرص البديلة للاحتلال، حصريًا في مجال النفط والغاز، إلى مئات المليارات من الدولارات.
تتفاقم الفجوة بين القيم المحتملة والمحققة لاستغلال النفط والغاز في الأراضي الفلسطينية المحتلة بسبب غياب ترسيم سياسي واضح لحقوق الملكية. بل إن الاكتشافات الجديدة للنفط والغاز الطبيعي في حوض المشرق العربي ستشكل مصدراً محتملاً لصراع أكبر إذا استغلت كل جهة على حدة هذه الموارد دون مراعاة الحصة العادلة للآخرين.
إن قائمة ونطاق الخسائر الناجمة عن الاحتلال الإسرائيلي واسعة النطاق، وهي بحاجة إلى تحديد وتقدير لتسهيل المفاوضات المستقبلية من أجل تسوية سياسية عادلة للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، ومن أجل بناء سلام دائم في الشرق الأوسط.
دوز
2025-06-15 || 20:35