مسرح الحرية: رحلة في جنين المحاصرة
تحت وطأة التهجير، أصبح مخيم جنين مدينة أشباح، وتحول مسرح الحرية من منارة ثقافية إلى ثكنة عسكرية. فهل يكون هذا الانتقال المؤلم من قصة لجوء إلى مأساة نزوح قسري نهاية قصة المقاومة الثقافية؟
وسط أطفاله الأربعة، كان مصطفى في منزله منهمكًا في تحضير وجبة الغداء، عندما اقتحم الجيش الإسرائيلي المنزل واقتادوه معهم بعد أن قيدوا يديه وعصبوا عينيه. لا يعلم أين هو وإلى أين يتجه ولكنه يذكر أنه تُرك مع مجموعة من المعتقلين في كرفان واحد قبل نقله إلى السجن، وأن الضرب الذي تعرض له كان أخف وطأةً من الذي تعرض له الشباب الأصغر سناً منه.
داخل أسوار سجن مجدو، تنفذ (وحدات القمع) عمليات تفتيش روتينية تتحول إلى اعتداء وحشي على أي سجين يمتلك أدنى شيء يذكره بالحياة خارج القضبان، سواء كان قلماً، ورقة، أو حتى ساعة. ويُقدّم الطعام في الغالب كأرز قاسٍ عديم المذاق والرائحة، وكأن طهاة السجن يتعمدون نسيان الملح وكيفية طهي الطعام، ليصبح مجرد وسيلة لإبقاء الأجساد على قيد الحياة. هذه الظروف القاسية أدت إلى خسارة مصطفى 40 كيلوغراماً من وزنه في غضون 15 شهراً.
بعد محنته في مجدو، نُقل مصطفى إلى سجن جلبوع سيئ السمعة، ليجد نفسه في نفس الغرفة التي احتضنت الأسير الفلسطيني وليد الدقة، الأديب والمفكر الذي فارق الحياة نتيجة الإهمال الطبي المتعمد في السجون الإسرائيلية، لقد كانت وفاته شاهداً على قسوة هذه السجون، حيث رفضت إدارتها مراراً وتكراراً إطلاق سراحه رغم معاناته الشديدة من تدهور صحي وإصابته بالسرطان ورغم انتهاء مدة محكوميته البالغة 38 عاماً.
المقاومة الثقافية
وبينما انتهت رحلة وليد الدقة في السجون بفاجعة وفاته، أطلقت سلطات الاحتلال الإسرائيلي سراح مصطفى شتا بتاريخ 30 مارس 2025. ويشغل مصطفى منصب مدير "مسرح الحرية" في مخيم جنين، وهي منظمة ثقافية فلسطينية تأسست عام 2006 وتقدم مجموعة متنوعة من البرامج الفنية الأدائية والبصرية، تشمل التمثيل، والدراما العلاجية، وصناعة الأفلام، والتصوير الفوتوغرافي، والكتابة الإبداعية، والإنتاج الورقي.
وانطلاقًا من فلسفته التي تؤكد الدور الحاسم للفنون في بناء مجتمع حر، يتبنى مسرح الحرية خيار المقاومة الثقافية. وتتضمن رسالته الهادفة إنشاء جيل جديد قادر على تحدي كافة أشكال الظلم والقمع لمقاومة الاحتلال والحد من الحريات في فلسطين، وذلك لتحقيق رؤيته في خلق نواة إبداعية وناقدة.
منذ تأسيسه، شّكل مسرح الحرية في مخيم جنين حالة فريدة جعلته أشهر مسرح في فلسطين، تتسارع وكالات الأنباء العالمية لإعداد تقارير عنه لما يحمله من تاريخ بدأ مع الناشطة اليهودية آرنا مير خميس، التي قررت عقب اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى (انتفاضة الحجارة) الانتقال للعيش في مخيم جنين مكرسة حياتها للنضال من أجل الحرية من خلال توفير مساحة للأطفال، أصبحت تسمى فيما بعد "مسرح الحجر"، حتى وفاتها سنة 1994. واستكمل ابنها جوليانو مير خميس ما بدأته والدته، وأثرها الثقافي في العمل المسرحي. وكخطوة إلى الأمام، قام جوليانو بترميم مسرح الحجر ليصبح "مسرح الحرية" في نيسان/أبريل 2006.
منذ نشأته، ظل مسرح الحرية هدفًا غير مباشر لقوات الاحتلال الإسرائيلي، التي دأبت على اقتحام مقره وقطع التيار الكهربائي عنه، بل وصل الأمر إلى اغتيال أبرز فنانيه الذين ارتبط اسمهم بالمسرح. ورغم ذلك، استمر المسرح في تقديم خدماته، ليصبح ملاذًا آمنًا للأطفال والناشطين الأجانب الساعين للتعبير عن تضامنهم مع القضية الفلسطينية عبر العمل الإبداعي والثقافي.
هل انتهت قصة مسرح الحرية؟
بدءًا من 26.01.2023، تعرض مسرح الحرية لسلسلة متصاعدة من الاقتحامات الإسرائيلية، وصلت ذروتها في ديسمبر من نفس العام واستمرت حتى اجتياح جنين عام 2025 الذي حول المخيم إلى مدينة أشباح بعد نزوح 21 ألفاً من سكانه قسراً. وخلال هذه الاقتحامات، انقض الجيش على المسرح ودمر محتوياته وأجهزته وسينماه، وعبث بهويته الثقافية برسم عبارات عنصرية ونجمة داوود على صور رموز المقاومة كغسان كنفاني وناجي العلي ومحمود درويش، كما يصف مديره مصطفى شتا.
وتم تحطيم كافة الجوائز القيمة التي حصل عليها المسرح، مثل جائزة نوبل البديلة للسلام وجائزة مهرجان فلسطين الوطني للمسرح، بالإضافة إلى جوائز أخرى لأعضائه. وطال التخريب صور الراحلين آرنا وجوليانو مير خميس والأعمال الإبداعية في معرض الفنون التشكيلية الخاص بالمسرح. وبذلك، فُقدت آخر سينما في جنين، حيث كان المسرح يحتضن الشاشة الوحيدة المتبقية لعرض الأفلام. يصف مصطفى ما جرى في مسرح الحرية بأعمال عنف تكشف عن كراهية متأصلة لرمزية هذا المكان وتأثيره العميق محلياً ودولياً.
بعد إطلاق سراحه من سجون الاحتلال الإسرائيلي، اكتشف مصطفى أن مسرح الحرية قد تحول إلى ثكنة عسكرية للجنود، الذين يعيثون في مرافقه ويتربصون فوق سطحه بقناصاتهم، في حين تشهد كل زاوية على ما لحق به من خراب. وقد فرض الجيش طوقًا أمنياً كاملاً على المنطقة، معلناً أنها منطقة عسكرية مغلقة يُمنع على الفلسطينيين الاقتراب منها تحت التهديد بإطلاق النار. ورغم ذلك، تمكن بعض سكان المخيم النازحين من التقاط صور في 8 فبراير 2025، لطمأنة محبي المسرح بأنه لم يُهدم بالكامل بعد. كانت هذه آخر المعلومات الموثوقة عن أيقونة النضال الثقافي في مخيم جنين.
عقب اعتقال مصطفى ورفيقيه، عبّر أكثر من 1000 فنان وناشط ثقافي بريطاني عن تضامنهم معهم مطالبين سلطات الاحتلال الإسرائيلي بإطلاق سراحهم، وذلك بتوقيع عريضة أكدت على أن "مسرح الحرية هو منارة أمل وصمود في وجه صعاب لا تُتصور، ويستحق زملاؤنا في هذا المسرح الحق في ممارسة عملهم دون خشية العنف أو الاضطهاد".
ضياع الهوية الجمعيّة
التأثير الأعمق لغياب مسرح الحرية ظهر جلياً على أطفال جنين ومخيمها، الذين كان المسرح نافذة أمل ومساحة آمنة لهم بعد توقف الدراسة والحياة الروتينية لأشهر قبل أن تقتلعهم آلة النزوح القسري. ومع تفرق الأطفال في شتى الأرجاء، بات لمّ شملهم أمراً عسيراً. ويعبّر مصطفى عن ذلك بقوله: "لم يكن المسرح مجرد مكان، بل كان فضاءً وجدانياً وإنسانياً للكثير من أصدقائنا، حيث اعتدنا على تنظيم أنشطة أسبوعية لهم. الآن، نسعى للوصول إليهم في مخيمات النزوح المتباعدة ونولي اهتماماً خاصاً لسلامتهم النفسية، فما فقدوه أكبر من أن يتحمله طفل، لقد كانوا لاجئين في مخيم صغير وأصبحوا الآن نازحين بلا مأوى ثابت خارجه". ويؤكد مصطفى أن "ما حدث مأساة حقيقية، ستلقي بظلالها على التكوين الذهني والهوية الجماعية للأطفال والشباب والعائلات، الذين لم يعرفوا طعماً للحياة إلا تحت وطأة الاحتلال وأزماته المتواصلة".
يخشى مصطفى أنه حتى لو أُعيد بناء مبنى مسرح الحرية بعد انتهاء احتلال المخيم وعملية التهجير المستمرة، فإن ما فُقد هو الذاكرة الجمعيّة المتجسدة في هذا الحيز، وهو إرث يتجاوز أي تعويض مادي. أما على أرض الواقع، فالتحدي الأكبر هو غياب المسرح كمكان، حيث تبدو الخيارات محدودة للغاية، فالجيش منتشر في قلب المدينة، مما يجعل حتى فكرة إنشاء مسرح شارع محفوفة بالمخاطر، فلا أمان والجميع عرضة للاعتقال أو القتل في أي لحظة.
بالإضافة إلى نشاطه في دعم النازحين خارج المخيم، يتخذ فريق المسرح في أوقات الأزمات المتكررة دوراً محورياً آخر، حيث يسارع إلى تشكيل مركز متنقل خاص بالصحفيين. وبذلك، يتحول المسرح الثقافي إلى مركز معلومات حيوي، يهدف إلى ضمان نقل قصص الفلسطينيين من مصادرها مباشرة إلى الصحفيين العاملين في وسائل الإعلام المحلية والدولية، سعياً لنقل الصورة الحقيقية لحياتهم تحت الاحتلال.
دوز
2025-03-27 || 20:27