أمس انتهينا.. فيروز
في السِّلم والحرب رافقنا صوتُها فباتَ صوتاً يحمِل دفء العائلة وحنين العودةِ إلى البيت بعد الخوض في معاركِ الحياة وخنادقها، فيروزُ لبنان.
شيء ما في فيروز يشبه الأهل، ولا ابتذالاً شِعرياً هنا، بل أقصد أهلنا الحقيقيين، أولئك الذين نتعلق بهم في طفولتنا، لا نسمع سوى أصواتهم ولا نرى سوى صورهم ولا نحفظ سوى كلماتهم، نحتاجهم للشعور بالأمان، لنكبر ونحلم ونستكين، لنستنهض شجاعتنا حين اللزوم، ولنذوب في عاطفتنا وعاطفتهم في كل حين.
وفي مراهقتنا وشبابنا، الأرجح أن نتمرد عليهم، نفكّر أننا أكثر تعقيداً منهم، أرقى، أذكى، أنضج، ننتقدهم، وربما نسخر منهم، من ضحالة أفكارهم بالأبيض والأسوَد، وألوانهم الزاهية القديمة كلها، ولعلنا أحياناً محقّون.
لكننا لا نكتفي بالأحايين، بل نقتنع بأننا دائماً وأبداً، نعرف ما لا يعرفون من مستجدات الدنيا التي تُجايلنا، وقد فوّتوها على أنفسهم ويسعون إلى تفويتها علينا، أننا نتذوق ما لا طاقة لهم على تخيّل وجوده في هذا العالم الواسع الذي ننطلق بقوة لسبر أغواره والتهامه كله بلقمة واحدة.
ومع انقضاء الشباب، بعد أن تعركنا الحياة والبلاد وخنادقهما، والخيبات والأزمات، نجدنا نعود إليهم، ننبش أدراج رؤوسنا وقلوبنا بحثاً عن جُملة لطالما رددوها على مسامعنا لنُفاجأ بأنفسنا مرددينها على أولادنا، ونوغل في خزائننا بحثاً عن صورة تجمعنا بهم.
نرهق الذاكرة- أو لا نرهقها بتاتاً- لاستذكار الترنيمة التي كنا نغفو على إيقاعها فنعيدها على صغارنا، رنّة إيقاظنا في الصباح، ونغمة الطمأنة التي كانت تهدئ روعنا في لحظة خوف أو انكسار أو شوق، نعود إليهم، أحياء كانوا أو أمواتاً، ونخبر أطفالنا عنهم، ونستحضرهم إذا ما استبدّ بنا ألَم.
هذا كله، فقط لأننا نحبهم ويحبوننا؟ لا، يعلّمنا انتصاف العُمر أننا، فيما نمرّغ جِباهنا في مخزون ذاكرتنا عنهم، نحنُّ، في جزء منّا، إلى ذواتنا الهانئة التي نعرف في قرارة النفس أنها ضاعت إلى الأبد.
فيروز، هكذا، هي أهلنا، ترعرعنا عليها، من دون أن نتوقف لحظة لنسأل أنفسنا إن كنا نحبها أم لا.
فهي مثل الحليب والألعاب والمدرسة، مُعطى بديهي في البيوت، ثم نكبر، ونحلّلها، نكبر على الحب الذي تغنّيه عُذرياً، وننكره حدّ الازدراء: "بحبك، ما بعرف، هن قالولي"... أيعقل؟
وفي سهرة سَمر، قد نتسلّى باصطياد قفشات نادرة لحبٍّ غنّته صريحاً بلا طوباوية، سرّياً، يتجاوز خفقان القلوب والمناديل، و"لمّا ع الباب يا حبيبي منتودّع، بيكون الضو بعدو شي عم يطلع"، و"ليل وأوضة منسية وسلّم داير مندار.. وهالأوضة وَحدا بتسهر وبيوت الأرض تنام... وتحت قناديل الياسمين، إنت وأنا مخبايين، نحكي قصص حلوين ولا مين يدرى شو صار". نتغامز ونضحك على شقاوات فيروز النادرة التي، كما يجدر بالاستثناء أن يفعل، تُثبت قاعدة طهرانيتها. ونحن، في فورة الشباب، نخاصم الطهرانية، نتعالى على رجاء "بياع الخواتم" أن يحبس الحبيب بخاتم.
فيروز ولبنان
أما لبنان الكرامة والشعب العنيد، وبيروت مينا الحبايب وزهرة الياقوت، والضيعة وجسر اللوزية، الجرّة والمختار والغريب، و"الجبال اللي ما بتنطال ولا بتركع"، فآثرنا، من قلوبنا أو مِن ورائها، أن نتبنّى تهكّم زياد الرحباني عليها.
ذلك أننا، في أيام الحرب كنا نبحث عمّا يلهج بواقعنا، بأصواتنا، يسمّي الأشياء والقتَلة بالأسماء، شعرنا أن ماضي الوداعة ذاك، تلك الغفوة الهانئة "الكاذبة"، آلت بنا إلى مهالك الحرب الأهلية.
وفي فترة السِّلم، أردنا تعويض خسائرنا ببهجة أرضية، من لحم ودم، لا بسماوية فيروز، سعينا نحو ما لا يذكّرنا بالفواصل الغنائية بين نشرات الأخبار، والسهرات على أضواء الشموع فيما الراديو يبث مسرحيات الرحابنة. دفعة غنائية معاصرة، لا فولكلورية، تُدخلنا في زمننا وتكشف لنا العالم من حولنا وتكشفنا عليه، بعد طول غياب وتمزق وعزلة فُرضت علينا بالنار والفوضى والعبث.
وكبرنا أكثر، وانتفضنا مرات ومرات، على جبال النفايات، على النظام الطائفي، على الميليشيات والاغتيالات والاحتلالات والوصايات، على إقفال دور السينما والمقاهي الأصلية وهدم الأبنية الأثرية، على هندسات الموازنات والضرائب والإفلاس، وذوداً عن الأموال المنهوبة والودائع المحتجزة في المصارف. وفشلنا، مرات ومرات.
والآن حرب جديدة، وفي غمرة الخسائر الموجعة من كل نوع، الفراق، الانمحاء القاسي، الظلام الذي بلا بصيص ولا حتى بوَعد هدنة مديدة، نجدنا عائدين صاغرين إلى فكرة لبنان الذي استخفّينا به يوماً.
الأخضر الحلو، ممّ يشكو الأخضر الحلو؟ لقد كان يوماً حقيقة ملموسة ومرئية، أين منّا شاويش الكراكون ومختار المخاتير ورئيس البلدية؟ برعم الدولة كان فعلاً، جَنين الدولة أُجهض، ولم يحبه أو يَحمِه أحد.
مَن يفهم على "الشخص"، بل جحافل "الأشخاص" وزبائنياتهم غير فيروز؟ نحن والقمر جيران، كنّا حقاً جيران، لكننا استهترنا و"هَسترنا" وأجْرمنا.
لم ندركه في وقته، ولم نصُن جِيرته في قناطر دارنا المنقرضة.
نسّم علينا الهوى من مفرق الوادي، عندما كان في ربوعنا وادٍ، وما عادت تعرفنا بلادنا، ولا نعرفها، كما خشِيَت فيروز، فات الأوان، على الأرجح. أمس انتهينا، طافَ النعاس على ماضينا وارتحلت حدائق العُمر بَكياً... وما هَدَأنا.
رشا الأطرش/ المدن
2024-11-22 || 18:59