حسين المحروس: 17 عاماً وهو يحمي البساتين بالفوتوغرافيا
حسين المحروس البحريني مصور فوتوغرافي وكاتب عن الصورة والتصوير والقائم بأعمال رئيس الشؤون الثقافية في وزارة الإعلام. يوثق بعدسته حياة الغلابة في وطنه البحرين بجمالية واحترافية عالية.
لا أدري أين قرأتُ هذه الجملة: "الصورة فنٌ رثائي"، ولكن هذا ما تأكد لي وأنا أقرأ كتاب «بستان الأحجار الكريمة» للكاتب والمصور البحريني حسين المحروس. حيثُ تكثف إحساسه بضرورة توثيق حياة البساتين المُعرضة للانقراض والسقوط الواحد إثر الآخر، وذلك كمحاولة أخيرة للحفاظ على الإحساس بالشيء قبل أن يختفي تماماً. فعل ذلك عبر الصورة التي تُحرضها ديناميكية الكلام، إلا أنّ النصّ لم يكن شارحاً للصورة قدر ما كان موازيا لها، والصورة لم تكن تابعة للنصّ قدر ما تمتعت بسرديتها الفريدة، فالصور والكلمات ترعى العاطفة وتحفظها في مكان آمن.
قيل له: «تأخرت كثيراً. أنتَ لم تر البساتين»! وكانت تلك المقولة تعني أنّه شاهد بصري منقوص! لكنه راهن على «ولاد أمينة».. آخر الجذور المرتبطة بالبساتين. راهن على إبقاء حياتهم حية ونابضة. كان عقله مشغولاً بضرورة نقل "قوة" و«خصوبة» العالم الطبيعي إلينا، محاولاً الإجابة على هذا السؤال: كيف يمكن لعالم البساتين أن يصمد إزاء قسوة الإسمنت؟! كيف نحمي مشيج الإنسان من جشع الإنسان؟
لم يكتف الكتاب بسرد قصّة «أولاد أمينة» وحسب، فهنالك شق رصين في النصّ يبحثُ أيضاً في التحولات التاريخية والاجتماعية التي عبرت حياة الفلاحين في البحرين، الأمر الذي أضفى شيئاً من الحزن على الأنظمة التي جرحت وجدان الفلاحين، أولئك الذين رأيناهم في صور المحروس، تتحول أيديهم -بمرور الوقت- لأغصان وأقدامهم المتشققة إلى جذور.
هذه التجربة الخاصة هي جرس إنذار للتراخي الذي قد يؤدي لفقدان الطبيعة كما نألفها.. فأن تذهب كلّ هذه البساتين بحياة أناسها بلا توثيق يعني أنّ ثمّة خللا فادحاً في مسألة الانتباه، ولذا يُصر المحروس على أنّ حياة تمضي على مهل ينبغي ألا تصور على عجل، «فكلّما صبرت رأيت!».
في كتاب «بستان الأحجار الكريمة»، رأيتُ صوراً أعادتني إلى ثمانينيات القرن الماضي في سلطنة عُمان. تبدت الصور كذكرى مُوجعة. قلتُ في نفسي بحسرة: إنّ ما عشناه لن يعيشه أبناؤنا، لن يشعروا بأي عاطفة تجاه صورة الفلاح الذي يجرح حقله فجر كل يوم. فثمّة ما شرخ هذه العلاقة: فهل كان هذا هو المبرر الأول والمُحرض لبدء عملك على مشروع كهذا؟ أم ثمّة مُحفزات أخرى؟
الدافع الأكثر شيوعاً في التصوير الفوتوغرافي، هو الحفاظ على الإحساس بالشيء قبل أن يختفي تماماً. لكن كما أشرتِ يا هدى هناك محرضات ومُحفزات عدّة. كان اهتمامي في التصوير في التسعينيات ببساتين شارع النخيل، الجزء الشمالي الغربي الأخضر من البحرين. أحمل كاميرتي الفيلميّة كانون AE1 وأمشي في البساتين، بلا حدود عبر جدران من السعف أو كوم جذوع الأشجار الميتة. طبعا لم أر شيئاً من الفترة التي وصف فيها المستشار تشارلز بلجريف حدود البساتين: «لا يمكن أن تعرف أنّك خرجت من بستان ودخلت في آخر حتى يُقال لك!».
أكاد أجزم بأنّ أكثر البساتين التي صورت فيها لم تعد موجودة اليوم، وما بقي منها أعرف جيدًا أنّه مؤقت. «الخرارات»، «العذار»، «الساجنية»، «الفوقيّة»، «البديعة»، «المحموديات»، «المقيسم» «السردحة»، «الهربدية»، «الخراب»، «الأطباع» و«الكسّة»، «الشاذبيّة»، «يار يار»، و«الرقعة» التي قال عنها الزرّاع الحاج عيسى الصيبعي: «رأيتُ الرقعة وهي بيوتا من السعف، ثمّ رأيت النّاس وقد استصلحوها وزروعها بساتين كثيفة. الآن أراها بيوتاً من جديد لكن من الحجر. ولا أعرف هل ستعود في يوم ما بساتين مثلما كانت؟».
في مطلع الألفية التفتُ إلى صوري التي التقطها للبحّارة وهم يعودون إلى يابسة القرى. (2000-2001) كانوا كأنّما يعودون للبساتين، فالشاطئ يبدو من داخل البحر مزروعًا بالنخيل الكثيفة. أمّا الآن فمكان البحر يابسة، ومكان حزام النخيل الطويل بيوت وعمارات سكنية!
في العام 2007 قسّم مالك بستان «المقيسم» أرضه وباعها قسائم بناء. رأيتُ البساتين تسقط تباعاً الواحد تلو الآخر على ضفتي شارع النخيل حتى يومنا هذا. ارتفاع ملوحة المياه الجوفيّة، منافسة الواردات الخارجيّة في المواسم ذاتها وغياب الدعم لبساتين صنّفت ضمن ما يعرف «الحزام الأخضر»، الذي يفترض ألاّ يمس أشجاره ونخيله أحد.
لم تبدأ علاقتك ببستان الشاذبية وأولاد أمينة من مسافة بعيدة. كنت حاضراً بكل حواسك تصغي وتلمس وتشم وتحس. لقد كنت قريبا كأنك تعيش معهم؟
زرتُ الفلاحين ليلاً في البيت الذي يجمعهم، البيت الذي لا يرونه إلاّ في الليل. ثيابهم التقليدية البيضاء، الضحكة البيضاء -أيضاً- في بيتها. شربنا الشاي وصار السؤال على صورة كبيرة لوالدهم الفلاح الحاج عيسى بن خميس، بكر أمينة، معلّقة في وسط المجلس. هذا الرجل رأى أكثر. انفتح الكلام على تلك المقارنة التي لم تتوقف يوماً، تسبقها آهات: البساتين قديماً، البساتين حديثاً، الماء الكثير، النساء في البساتين، الظلّ الكثيف المتّصل في المسافات الطويلة في البحرين، طريق العودة (شارع البديع حاليا) المظللة كلّها بالشجر، بالنخيل، بالثمر، الهواء النقي، الغبار النادر، رائحة نَفَس الأرض، تداخل البساتين ورضى النفوس فلا أحد يسأل عن الحدود. وكان الأكثر حضوراً في تلك المقارنة حياة الآباء، كثرة الحياة فيها، الإعالة الأيسر، الوقت يكفي مهما كانت مساحة البستان، تغيّر المناخ، قلّة الأشجار وانحسار الظلال. هذه مجموعة محرضات على التصوير.
في كلّ ما مرّ، وما حدث وما رأيته من تحولات في هذه البيئة الغنية بالبساتين والهواء النقي، النظافة، والخصوبة أن نخلاويّاً قال لي: «تأخرت كثيراً. أنتَ لم تر البساتين»! وكانت مقولته تلك تعني أنّك شاهد بصريّ منقوص! كنتُ أرى مقولته تلك تُظهر في وجهي كثيراً مثل طبقة ثقيلة لإرث طالما أهمل وأن تركه يختفي بهذا الشكل الرثائي نقص جديد سوف يلازمه شيء من الحسرة والغضب وأن الكاميرا يجب أن تكون جادة في هذا الأمر، تنقله بواقعتيه الشعرية للذين لن يروا ذلك. الغضب من سوء استخدام التصوير تجاه المزارعين المحليين.
كلّ ذلك يُحرض كثيراً على التصوير والخوض في التجربة الآن وليس غدًا، جمعا لما يصعب فهمه، وإنذاراً للتراخي في التحذير من فقدان طبيعتنا، أرضنا، بساتيننا، هواءنا ومائنا. حفظاً للعين التي رأت، واستنطاقاً لما بقي من البساتين، التي تنتظر حفظها، ترويج جمالها وعطائها، وحتى لا أزعم أنّي فهمتُ حياةً لم أجتهد في تصويرها، ولا أصوّر وجوه أناس لا أعرفهم، وحتى -أيضاً- لا أتأخر مرتين.
لقد ذكرتني.. قرأتُ مرّة جملة لم أستطع تجاوزها بسهولة: «الصورة فنٌ رثائي»؟
قصة تصوير الوجوه جاءت من محاولة حفظ وجوه الراحلين عبر وضع طبقة من الشمع أو الطين عليها وأخذ نسخة عنها. هذا واحد من أسباب أنّ: «الصورة فنٌ رثائي» كما قال روجيس دوبرى، حيث يرى أنّ «الفن يُولد جنائزيا ويُبعثُ بعد موته بحافز من الموت». العودة لصور الموتى في الألبومات أو تعليقها على جدران المنازل يشير إلى ذلك أيضاً. وكأنّ دور الصورة سوف يتوقّف لو توقّف الموت! كلمة (Imago) اللاتينية تعني في أصلها القناع الشمعي الذي يوضع على وجوه الموتى ثمّ يتقدّم الجنازة، بعدها يحفظ في صناديق الفناء على الرفوف بعيدًا عن الأعين، بهدف تقديس الأجداد، ولا يكون ذلك إلا بغرض حفظ وجودهم من خلال الصورة، وهذا أمر خاص بالنبلاء. كلمة علامة (Signe) اشتقت من (Sena) التي تعني شاهدة القبر! صناعة التماثيل قبل أن تأتي الصورة نفسها لها علاقة بمسألة الموت والفناء. الآن وعبر التقنيات الحديثة تطبع الصورة على شاهدة القبر وجوارها يكتب اسم الراحل. الأمر الذي نظنّه عادياً جداً، ويحدث كلّ يوم: أنّ الحيّ يمسكُ الميتَ بالصورة! تغدو الصورة هي الكائن الحيّ. يقول باشلار: «الموت هو أولا صورة وقبل كلّ شيء، وسيظل كذلك صورة».
أنت تجعل موت البساتين صورة موازية لموت الناس؟
المصورة الأمريكيّة سالي مان، كانت تُصور الجثث في الغابات وتُحللها على مراحل! انتقدت على ذلك طبعاً مثلما انتقدت على تصويرها لأولادها في أوضاع رفضها المجتمع الأمريكي. كانت مان تشير إلى أنّّها مهتمة جدًا بمسألة عودة الجسد للتراب! الموضوع الذي طالما تحدّث عنه الفلاحون الأخوة «أولاد أمينة» وهم يضحكون، يقلّبون التربة بأيديهم ويشيرون لمسألة الرجوع للأرض التي وصفها عبد الله بن خميس بالأمّ. يصعب أحيانا فهم كلّ شيء!
الكتاب يتجاوز الجمالي إلى التوثيقي. فللصور وظيفة في الكتاب، ربما لأنّك تُوثقُ شيئاً في طور الغياب أو الزوال.. لقد أزيلت البساتين، أزيل مشهد الصيادين أيضا بشكل تدريجي. فهل يمكن للصورة أن تنقذ الذكريات والحنين من الأفول؟
كانت هناك مبادرة للحفاظ على الصورة في الشرق الأوسط، تدعى (MEPPI) عملتُ فيها منذ 2012 حتى 2017 في ثلاث دول: تركيا، لبنان والإمارات، وكان من بين دروسها، ما تقوم به مراكز الحفاظ على الصورة في العالم، إذ يأتي عملها مباشرة بعد عمل عمّال فرق الإنقاذ في الأماكن المنكوبة. فماذا يفعلون؟ يجمعون ألبومات صور النّاس والعوائل! ليس للتعرّف على أهلها فقط، ولكن من أجل تسليمها للناجين، وذلك بهدف رعاية العاطفة وتاريخها. هذا جزء مما تفعله الصور: «رعاية العاطفة».
فذهاب كلّ هذه البساتين بحياة أناسها بلا تصوير يعني أنّ ثمّة خللاً فادحاً في مسألة الإنتباه. التصوير يعني الإنتباه وحفظ ذاكرة الجمال والهواء والطعام والحياة التي توهبُ للنّاس والعالم. كلّ ذلك يحدث من أجل الحفاظ على العاطفة والحنين في الصور، لكن قد تقوم الصورة أيضا بفعل عكسي تماماً: تدمير الذاكرة!
أمّا إشارتك (الكتاب يتجاوز الجمالي إلى التوثيقي) فأظنّ أن العكس يحدث أيضاً، ففي الصورة التوثيقيّة تعبيرات عن شيء آخر. هذا الآخر هو رؤية المصوّر وشعوره الشخصيّ الفرديّ، تلك الرؤية التي يمكن معرفتها بحساسية وصدق. صحيح أن الصورة لا يمكن أن تكون بديلا للأصل، وصحيح أيضاً وجود النقص الذي يعتري الصورة الوثائقية، والذي يدفعنا لأن نشكك فيها باستمرار، تقول المصورة الأوكرانية يفغينيا بيلوروستس: «إن أي وثيقة هي كذبة جزئياً، وهذا ينطبقُ بشكل خاص على التصوير الفوتوغرافي الوثائقي، الذي لا ينقلُ سوى جزء صغير من الواقع».
فكرة استخدام الصورة الفوتوغرافيّة لتوثيق شيء ما يقوم في الأساس على استبداله. لكنّ هذه الصورة -على الأقل- يمكن أن تكون نسخة ولو ناقصة عن هذا الواقع، تُحرض المخيّلة، وتستفزُ الذاكرة وصولا للنقاء الذي كان والرضا الضائع.
جملتك (كونك تُوثقُ شيئا في طور الغياب أو الزوال) هذا ما أراه في كلّ مرّة أدخل فيها البستان. كان هذا الشعوراً قويّاً عندما رأيت صورة (عيسى بن خميس) والد الأخوة الأربعة مُعلقة في مجلس بيتهم ليصبح غياب المكان في الأصل غياب الأشخاص. تتداخل الأشياء دائماً. فالصورة التي تُلتقط من هكذا شعور هي مؤشر لخسارة الحاضر المفقود الذي لا يمكن استرجاعه. هذه ليست دعوة للكآبة لكن لمراجعة أمر هو كئيب بطبيعته وصرنا متناغمين معه ونستذكره.. أليس هذا هو الفنّ على حد قول بودلير؟
«الذي لم يرَ البساتين، يمكن أن يرى العين التي رأت البساتين»، لقد جعلتنا نُكوّن علاقة خاصة بأولاد أمينة: عبدالله وجميل ورسول وحبيب، أولئك الذين يعرفون مواعيد الغرس بالرائحة لا بالمواقيت». بدو البساتين الرُحل بسبب نظام التأمين القاسي. تعرفنا على وجوههم، وأدوارهم في العمل، من يسقي، من يصعد النخل، ومن يذهب إلى السوق، كنا أمام حياتهم الكاملة.. كيف دخلت حياتهم بهذه الخفة والعذوبة، دون اقتحام مُباغت بعدسات التصوير التي تُرعب البعض، وكيف اتسع وقتهم وقد حدثتنا عن انشغالاتهم؟
هؤلاء النّاس جادون حتى في ضحكتهم؛ لذا رأيت أن يكون دخولي عليهم بالجدّ أيضاً، وكنت أؤكّد على جدّية كاميرتي كلّ مرّة وأنّي لستُ هنا للتسلية. في البداية لاحظتُ عدم ثقتهم بي؛ ولذا لم أرفع كاميرتي في وجوههم، حتى قال لي كبيرهم الذي صار صديقي، عبد الله بن خميس ساخراً، مقللا من طاقتي: «ما تقدر عليه»!! أي العمل في البستان. كنتُ أزورهم في بيتهم الذي يجمعهم في القرية، أصغي لأحاديثهم، وأقوم بتدوينها كلما عدتُ إلى البيت، حتى استطعتُ بعد سنوات من هذه العلاقة رفع الكاميرا في وجوههم، فلم يهتموا بوجودها، ولم تعطلهم عن مهامهم اليوميّة، معتمدا على الضوء الطبيعي فقط واستغلال زوايا سقوطه على أجسادهم. هذا السبب الذي جعل المشروع يستغرق سبع عشرة سنة. هذه حياة طويلة لأربعة أخوة من أمّ واحدة، فلا يمكن توثيق وقوف واحد منهم في عجالة، لأنّ الحدث وقع ببطء شديد. وهذا ما جعلني أكتب فيما يشبه النصيحة الكلاسيكية: لا تذهب للفلاحين إذا لم تكن جاداً. وهذا شيء من معنى الجد الذي أقصده: النظر إلى حياتهم وتتبع حركتها ببطء كتابة وتصويراً، ومع ذلك تبقى المساحة الأكبر للصورة، ففي البستان لا يمكنك أن تقول أكثر ممّا ترى.
أذكر أنّي في البداية كنت حذراً للغاية، شرحتُ سبب وجودي على مهل شديد وفي فترات متباعدة وطويلة بطريقة جعلتهم مهتمين بمقاصدي. عرفوا أنّي هنا لست للعب أو للتسلية فاحترموا ذلك دون أن يقولوا. وربّما تركتُ كاميرتي في حقيبتها؛ ليس لأنّ العلاقة في بدايتها، ليس لخفّة الترحيب في نفوسهم؛ فهذا مقابل طيبتهم، طبيعة كرم الأرض تحت أقدامهم، لكن المكان في البستان كلّه جدّ، كلّه قصد، كلّ شيء في موعده، ولا يليق بمصور ليس جاداً أن يذهب للفلاحين.
لكن كيف لكاميرا صغيرة العين أن تعي هذا المعنى؟! وكيف أعي معنى أنّهم يعرفون مواسم الغرس بالرائحة، لا بالمواقيت؟ كيف يمكن كتابة ذلك فضلاً عن تصويره؟! كنت أبحثُ عن لحظات صغيرة في العزلة، لذا كثيراً ما كنتُ أجلس معهم فقط، بلا قصد غير التناغم مع فكرة حياة الرضا التي تتكشف لي بينهم.
لكن ماذا لو لم تُؤازر كلماتك المعنى الأعمق للصورة، تلك الكلمات التي جعلت الصورة تتحدث من عُمق غير مرئي، وجعلتنا نُقدر كل التقاطة؟ فإلى أي حد أسهم اهتمامك بالإبداع الكتابي الشعري والروائي في خلق معانٍ للصور عبر اللغة؟
لا أعرف بالتحديد كيف يمكن الحديث بوضوح عن أمر لا يحدث بوضوح! كلّ الذي أعرفه أنّ الكتابة والفوتوغرافيا يتقارضان. فكلّ واحد منهما يقترض من الآخر ما يُسهم في زيادة طاقته على كونه وسطاً ساحراً للتواصل. لكنّي في هذا المشروع وجدتُ الصورة لا تشرح الكتابة مثلما أنّ الكتابة لا تسرد الصور. ثمّة عناد ما، ساعدني على معرفة من أين يمكن أن يأتي التصوير أكثر ومن أين يتّجه؟! وعرفت أنّ العبارة التي يقولها الفلاحون أقرب للشعر منها إلى الصورة. لكنّ عباراتهم تشترك مع التصوير في شعبيته أيضاً.
قبل سبعين عاماً تقريباً كانت الكاتبة والمصورة نانسي نيوهال تسمّي ذلك «علاقة متبادلة بين الكلمات والصور». إلا أنّ مصطلح التقارض أكثر عمقاً من المبادلة. كانت نيوهال مهتمة بمراقبة ما يحدث حينها جوار أنسل آدمز وألفريد ستيجليتز وآخرين، أشارت: «من الواضح أنّ لغة جديدة للصور تتطور، ويتطور معها استخدام جديد للكلمات».
أحاول هنا أن أقترب لأعرف ما الذي يحدث عبر إرث نيوهال. فقبل إشارتها للتبادل بين الكلمات والصور بنحو عشر سنوات، أي في عام ١٩٤٠، ذهبت إلى أن التصوير الفوتوغرافي قادر على امتلاك القوة التجريدية للشعر متجاوزة بذلك ستيجليتز، الذي طرح في وقت سابق فكرة التكافؤ بين الصور والموسيقى. وهي أيضاً التي اخترعت نوعاً جديداً من كتب التصوير الفوتوغرافي، نوعاً يجمع الصور الوصفية وبجوارها مقتطفات أدبية إيحائية من القصائد والرسائل والمذكرات والمواعظ وغيرها.
فبينما تحاول الكتابة اكتشاف الحياة الداخليّة للصورة، تحرضُ هذه الصورة على اتساع طاقة التعبير الكتابي، وملئه بخيال من الواقع نفسه. ولعلّ هذا هو السبب الذي يجعلنا نرى صورًا عندما نقرأ نصّاً معيناً، حتى لو كان توثيقياً، ونعرف أنّ هناك منْ كان يحاول الحصول على شكل أدبي من الناحية البصرية. لكن أودّ التأكيد على أمر هنا، طالما تسبب غيابه إلى خلط فادح، وهو أن إثبات الصور لا يحتاج إلى كلمات، ففي الصورة جحافل من المعاني المزعجة والمروعة، من الصعب تحقيقها بالكتابة.
في النهاية هذا موضوع مُربك في أكثره، لأنّنا كلما كتبنا أو تحدثنا عنه، صرنا نقارن بين فعل الكتابة وفعل الصورة. ربّما نسعى للتعرف على مزيد من وسائل التعبير والاتصال، حتى لو قارنّا بين وسيلتين مختلفتين في كلّ شيء.
لماذا تُركز على الأيدي والأظافر التي يتكور أسفلها التراب، بصورة مُقربة وعميقة، ولمعة حبّات العرق.. العروق الدقيقة والأوردة. الأعين شبه المغلقة. صرامة التجاعيد. الفرح المقرون بالتعب. الثياب الملطخة بالطين، دقة الخطوط والتعرجات في باطن الأقدام. لم نكن نرى البساتين بقدر ما نراهم؟
لأنّها مراكز الاتصال بالأرض وفيها سيرتهم كلّها. هم يدركون هذا الاتصال بعمق ويتحدثون عنه ببساطة الفلاح العارف؛ لذا لديّ كلّ هذا الاهتمام في الاتصال بها عبر الكاميرا. انظرُ طويلاً لصورة شقوق قدم عبد الله بن خميس، أجدها مكامن للفنّ، لحبّة الرزق في الصباحات، وللحياة. أيد يحبّها الله وأحبّها. أراهم- خصوصاً في الصباحات المبكرة جداً- كائنات تشقّ الأرض وتخرج لتعتني بتربتها. في إحدى المرات رأيتُ الشمس تخترقُ عنق عبد الله بن خميس، التقطتُ له صورة وكتبت: «تشرق الشمس من رقاب الفلاحين». في كلّ مرّة أبحث عن أشكال جديدة للحياة في تصوير كلّ ما أشرتِ إليه. أبحثُ عن العلاقة الحيوية في التقارض بين الكلمات والصور، والحاجة إلى تفسير متطور للفوتوغرافيا.
تصوير الوجوه ومراكز التماس مع التربة أكثر ما يلفتني في البستان. يمكن عبرهما النظر إلى الحياة هناك، وهو الأمر الذي يُحركني، يُثيرني ويفتحُ أمامي نوعا من الأسئلة، لا تنتهي بإجابات فورية. كتب رينيه شار في مكان ما عن الشعر الذي يخترعه ناس ويكتشفه آخرون. هذان عالمان مختلفان تماماً: المخترعون والمكتشفون. وهما موجودان في التصوير الفوتوغرافي أيضاً. أنا مهتم بالأشخاص الذين يحرضون على الاكتشاف فقط؛ أشعر بالتضامن مع أولئك الذين يذهبون للاكتشاف؛ بالنسبة لي، ينطوي ذلك على أخطار أكبر بكثير من محاولة صناعة الصور ومسرحة الحدث. في النهاية، الواقع أكثر ثراءً وعليك أن تنظر فيه، والبحث وهي عملية تتطلب قدراً طويلاً من الوقت والصبر.
هناك شيء عميق في داخلهم لطالما عبروا عنه ببساطة متناهية جداً. ولعل هذا ما يضفي عليه صبغة التعقّد. هذا الشيء حاولتُ أن أراه ابتداء من أيديهم، المركز الخارجي لغنى الفلاحين. كنتُ أشعرُ بشيء من الرضا في هذه الصور بالذات، بالمحبّة، بكثير من الأخوة. دعيني أقول: الرضا عن الرؤية أيضاً في تلك الصور.
من بين الأيدي المُعفرة بالتراب تخرج وردة أو ثمرة، فنشعرُ بذلك التواشج الفريد من نوعه، الذي يدفعنا لنظن بأنّ اليد هي غصن، وشقوق الأقدام هي جذور مُتعرجة.. هكذا يبدو الفلاح جزءا لا يتجزأ من البساتين، فهل كان هذا التماهي مقصوداً؟
في البستان هناك أشياء كثيرة غير مقصودة، تنمو على غير خاطر الفلاحين! كانت تلفتني أكثر من أي شيء آخر على طريقة (نحيا معاً)! الزهرات الصغيرات، نبات (البلش) المؤذي ينمو على غير رغبة الفلاحين. كنتُ أحاول التشبّه بهذه النقائض عبر القصد في الإشارة إليها. بعدها وجدتُ أنّ لها دوراً غير عادي في سيرة الفلاحين وفي عبارات الأمثال الشعبية: «لأجل الجت (البرسيم) يروى الحشيش»! فهذا البغيض (الحشيش) يُترك، يرتوي لأنّه نبت جوار البرسيم. هذا النظام يزيد النظر في كلّ شيء متجاور في البستان وغيره، ولا أندهش حين أرى اليد غصنا، والقدم جذع شجرة مائل، والزهرة الصغيرة في يد واحد منهم رقّة الفلاح الصامتة، وجميل بن خميس في عرشة التوت جزءاً مهما منها. أرى التجاور، والتقارب، واللمس والمشيج في البستان بهذا الشكل وأسعى لتصويره.
الصورة المقرونة بالشعر.. وإلا فكيف يمكننا تجاوز هذه الصورة: «تشرقُ الشمس من رقاب الفلاحين»، ونشعر بأنّ الصورة تمسنا عميقاً، وكأنّ مجرد توهم اختفاء الفلاحين يعني اختفاء الشمس؟
لطالما أشرتُ إلى أهمية أن يطّلع الكتّاب والشعراء على الصورة في وسائل نشرها، وأن حاجة الكتابة إليها ماسّة جداً مثل الحاجة لسعة التخيّل. ولا أتصور شاعراً لا يهتمّ بالصورة الفوتوغرافية، وبالمخزون الشعري البصريّ فيها. في هذا المشروع الصور ليست توضيحية، إنّما تتساوى مع النصّ، وقد تتجاوزه على مهل. صورت الفلاحين وكتبت عنهم في بيئة تشير لي أنّهم سوف يختفون في يوم ما. لا أعرف مصدر هذا الشعور غير أنّ الصورة هي طريقتي في التمسك بالأشخاص وفي إبقائهم، مثل شخص يصوّر المكان قبل أن يهمّ بمغادرته. يُقلقني سحر الصورة مثلما يقلقني فعلها في تدمير الذاكرة الفعلية للفرد، فكلّما كثرت صور الشخص قلّ حضوره في الذاكرة الفعلية!
الاعتداد النادر عندما قالوا: «بأنّهم أولاد أمينة»، دون شعور بأنّ ذلك ينتقصُ منهم شيئاً، وكأنّ من يتصل بالأرض لا يعيبه اتصاله بامتداده لأمّه البيولوجية أو الأمّ الكبرى.. الأرض؟
لذيذ هذا البيان! هؤلاء الأخوة الأربعة هم آخر فلاحي عائلة بيت خميس، رأى بعضهم نظام البيت الكبير، تقوده أكبر النساء فيه، وتقسّم الأرزاق فيه على أهله. أمينة كانت تلك المرأة، بقوة شخصيتها وحضور رأيها فكان الانتساب إليها فخر في زمن لا يفتخر الرجال فيه إلا بالرجال. كانوا يتحدثون عن المعنى الذي تشيرين إليه أيضاً. يقول عبد الله بن خميس: «الأرض هي أمّنا، جينا منها وبنرجع في حضنها». هذا الفخر يجعلني أراجع تلك الصورة التي رسمت لثقافة الفلاحين في البحرين فيما يتعلّق بالمرأة أيضًا. أجد شيئا من الصورة حاضرة عند إطلاق كلمة (الله) دهشةً وإعجابا كلمّا رويت لهم قصّة فخر الفلاحين بجدتهم أمينة جهارًا: «إحنه أولاد أمينة». من أجل هذا كلّه أهديتُ الكتاب إلى أولاد أمينة.
لطالما ظنّ البعض أنّ التصوير، مجرد ضغطة زر يسيرة. لكن حسين المحروس كان يستيقظ قبل الفجر بساعتين للتعرف على نسيج الطقوس الدقيقة لحياة الفلاحين، فما الذي جعلك تمتلك كل ذلك الصبر والانتظار؟
آه، في البستان.. هناك الكثير من الضوء، كأنّه مبالغة في الحياة. عندما يصنع المصور حياة داخلية لا تنهكها سنوات النظر، لا يتعبه الانتظار، ويتخذ من الصبر تألقًا متجدداً يمنح تلك الحياة سعة في الرؤية. تصبح (أن ترى) مثل واجب غير روتيني، مسنوداً بالخبرة. عندها سوف يفعل هذا الانتظار أمراً مهما: يُظهرك لنفسك، تتأملها فلا تتعب.
أظنّ أنّ العيش داخل الموضوع نفسه يهبك كلّ هذا الصبر مع قناعة في توقّع الحصول على صورة تقول لي: (كفى.. عد إلى البيت). كان ديفيد أرمسترونج يقول: «الحصول على صورة جيدة يشبه الغوص بحثاً عن اللؤلؤ. عليك أن تلتقط آلاف الصور لتحصل على صورة جيدة، مثل اللؤلؤ النادر في المحار». هذه شراهة لن تسمح لك بالتوقّف عن الغوص والأخذ. تتوقف، تعود إلى البيت وتجلس لتشاهد الصور، ما الذي يحدث؟ مشاهدة الصور الجيدة تجعلك تشعر بالرغبة في التصوير مجدداً.
الأمر الآخر أنّ الحياة، أي حياة تمضي على مهل ليس من الصواب تصوريها على عجل. فكلّما صبرت كلّما رأيت! بالمناسبة، يقولون لي: لا أحد يُعلّم أحداً هنا، يتركون أولادهم في التجربة، يتعلمون كلّ شيء على مهل؛ لذا كنتُ أرغب في رؤية ذلك يحدث أمامي لأصوّره. كنتُ أخشى أن أغادر ويحدث شيء لا أصوّره.
في حفل اجتماعي في الحيّ سأل صديق لي عبد الله بن خميس: ماذا يفعل هذا هنا؟ فقال: يصوّر والوقت ما يجزّيه (لا يكفيه)! وكان أكثر ما راقبته وصورته على مهل شديد: التغيّر في وجوه الأخوة الأربعة. عندما وضعتُ تلك التحولات متجاورة في صور البورتريه في المعرض رأيتُ الناس ترغبُ في لمس وجوههم. بدا لي الأمر كيقين حبّة الندى في حركتها البطيئة للوصول إلى نهاية الورقة، للإصغاء الطويل عند الفلاحين للخير القادم في (الشرب) الذي زرعوه قبل أيام بالكزبرة والبقل. لا يمكن للمصور أن يكون في حركة مُناقضة لحركة البستان. فالعجل لا يرى.
كان لديّ رغبة مبالغ فيها، في التعرف على مكانة جزء من الوجود غير متخيّل، وهو الحياة في البستان، واستنباط تقنيات مناسبة لتسجيله والاتصال به وتحليله والدفاع عنه بالكاميرا الساكنة، والكلمة المطبوعة، ربّما يصل إلى أولئك الذين لديهم مكان ناعم في قلوبهم.
في النهاية، التصوير الفوتوغرافي كما يقول هيرفيه جيبرت في كتابه (صورة الشبح) « فعل حبّ أيضاً». ومهما صبرت وانتظرت سيكون هناك (لحظة حاسمة) وهو المصطلح الذي سرقه المصورون من مذكرات الكاردينال الفرنسي دي ريتز (1613 – 1679)، عندما قال فيها: «لا يوجد شيء في هذا العالم ليس له لحظة حاسمة»، وهو مجاز لغويّ اقترضه المصورون تجاوزته الصورة بعصورها المتعددة في وقت واحد: وقت صنعها، وقت كشف النقاب عنها ونشرها، ووقت إعادة اكتشافها لاحقاً. سوف نرى كيف ظهرت تلك اللحظة لأول مرة، وكيف يمكن رؤيتها بشكل مختلف لاحقاً ثم ظهورها مرة أخرى، بعد إخراجها من العزلة، وإعادة تشكيلها بالمعرفة والسياق. كيف يكون المفرد جزءاً من تسلسل أكبر. لكن كما اشترت «طالما ظنّ البعض أنّ التصوير، مجرد ضغطة زر يسيرة» في حين يمكنك العثور على الخلق كلّه في جزء صغير من الخلق كلّه.
«لا نعرض العمل في البستان على أولادنا، أدخلناهم المدارس. وكأننا نعدهم لغير البساتين. نحن آخر الرجال في العائلة يعملون في البساتين؟» أظن أنّ هذه الجملة هي الأكثر قسوة، فكيف يتحول التعليم والمعرفة إلى قطيعة مع الأرض؟
كان الخيار الوحيد أمام أولاد وبنات ونساء الفلاحين هو الأرض. ونظام العائلة يجري على ذلك. بيت واحد تقوده أكبر النساء ويكون الاقتصاد بيدها، الأكل الواحد، الملبس، الحاجات، الكسوة مرتين في السنة، كلّها في يدها، إذ لا رواتب نقدية للفلاحين. فلما بدأ الرجال العمل في حفر آبار المياه ثمّ شركة النفط، بدؤوا يتلقون شيئا من التعليم التقني العملي المباشر، وصار لربّها راتب، فبدأت العوائل الصغيرة داخل البيت الواحد في الاستقلال أوّلا بالطعام والكسوة، وهنا فقد النظام أهم ركيزة فيه وهي مركزية الإطعام. بعدها صارت العوائل الصغيرة تنفصل عن البيت العود في السكن وتكوّن عوائل نووية صغيرة مستقلّة. لكن ذلك لم يجعلها تنفصل كليا عن العمل في الأرض في أوقات العصر أو الإجازات. لكنّ- كما قلت- ثمّة خيار جديد صار أمام النّاس: العمل خارج الأرض. ومع بدء التعليم وخفّة وظائفه ومخرجاته مقارنة بالعمل القاسي جداً والطويل والمنهك، رأى الآباء مستقبلاً آخر لأولادهم خصوصاً مع تراجع المتاح من رقعة الأرض المزروعة وطغيان الإسمنت وثورة الاستثمار السريع بعد النفط وغياب القوانين الصارمة التي تحدّ من انحسار اللون الأخضر، ومجيء التباهي الإعلامي الفجّ بالمحافظة على الأحزمة الخضراء وانتشار مشاهد زراعة الأشجار بطرق لامعة بينما كانت الآفات بأنواعها تنخر في النخيل وكلّ شيء أخضر وتراجع الدراسات في هذا المجال، وتقدّم الزمن واختلاف ورثة البساتين وهذا رأيته كثيرًا. كلّ ذلك جعل التعليم يأخذ العاملين في الأرض بعيداً عنها. فقبل أن نفقد سعة الأرض المزروعة فقدنا التربة.
الكاتبة: هدى حمد/ جريدة عُمان
2024-05-31 || 14:04